مقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، من الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط المُلتهِب، ولن تنحصر تداعياته في لبنان. ورغم أنّ الإعلان عن مقتله تأخر ساعاتٍ، وجاء من إسرائيل قبل حزب الله، وحلفائه الإيرانيين، فإنّه حدثٌ يُؤثّر في المنطقة لا محالة. أثار الحدث ردَّات فعل كثيرة منقسمة عربياً. وبعيداً عن تلك الانقسامات، من المهم تحليل الحدث في سياقات ثلاثة: كيف سيُؤثّر غياب نصر الله في الحزب؟ وما موقف إيران؟ وأخيراً، ماذا يعني غيابه للمنطقة؟
أولاً، مقتل نصر الله ضربة كبيرة ومُؤثّرة لحزب الله. على المستوى العملياتي، جاءت هذه العملية بعد استهداف أفراد أمن الحزب بعمليتي “البيجر” و”الووكي توكي”، ومن ثمّ استهداف غرفة عمليات “الرضوان” التي رفعت من مستوى المُستهدَفين عملياتياً، وأودت بحياة قيادات الصفّ الأول منهم، لتخلص إسرائيل إلى قتل نصر الله، وقياديين آخرين، بشكل يُظهر اختراقاً أمنياً إسرائيلياً واضحاً، إذ تحوّلت إسرائيل إلى هذا النمط من العمليات “الجراحية” منذ استهدفت قيادي حركة حماس، صالح العاروري، في الضاحية، ومن ثمّ أثبتت لإيران قدراتها حين استهدفت داخل طهران رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنيّة.
ليس من السهل أن تتخلّى طهران عن حليف مثل حزب الله
وعلى ذلك، يصعّب هذا السياق الأمني العملياتي على الحزب إعادة إنتاج قيادته، وبالتالي، يُعزّز الفكرة الإسرائيلية، وربّما للمرّة الأولى بهذا الشكل، بأنّ استهداف القيادات شتّت الهياكل والقواعد، وقد ينطبق ذلك على حالة حزب الله. وإضافة إلى الجانب العملياتي، نصر الله للحزب، رمزياً وسياسياً، هو من قاد تحوّل الحزب، الذي لطالما اتُّهم باستهداف قوات المارينز الأميركية عام 1983 بعملية انتحارية (لم يعترف الحزب بها)، من مثل هذه العلميات إلى نمط حرب العصابات، وتطوير إمكانات القصف، خاصّة أنّ المجموعات الجهادية كانت في صعود، وتتّجه نحو استخدام هذه التكتيكات بكثرة. لكن تأثير نصر الله لم يكن بهذه المحدودية، بل هو الذي نقل الحزب إلى الحضور الحركي السياسي، بعد أن استلم قيادته من صديقه عبّاس الموسوي، الذي اغتالته إسرائيل عام 1992، في إعادة إنتاج فكرة طبقة “حركة المحرومين” (أسّس عليها موسى الصدر الحركية الشيعية في لبنان عبر حركة أمل، التي انشقّ عنها حزب الله لاحقاً)، بتقديم الإطار لـ”فقراء الشيعة”، وإعادة إنتاج الضاحية الجنوبية مركزاً للحركة، للتحوّل فاعلاً سياسياً في الممارسة، بل مهيمناً في السياسة اللبنانية عُرفاً، خاصّةً أنّ الحزب لاقى معارضةً لانخراطه فيها في البدايات من بعض مؤسّسيه (صبحي الطفيلي).
كما يبدو أنّ عودة نصر الله إلى قم، رغم دراسته في النجف، أثّرت في ربطه الحزب بإيران، بشكل مباشر، أيديولوجياً (ولاية الفقيه) ومالياً، وتموضع الحزب واحداً من أكثر أذرع إيران أهمّيةً في السياسة الخارجية، وتلك الأذرع باتت واحدةً من إشكالات التفاوض الغربي الإيراني سنوات طويلة. وما بعد حرب تمّوز (2006) تصاعدت شعبية نصر الله في المنطقة بشكل صاروخي، بطرد القوات الإسرائيلية، وتحرير جنوب البلاد، لكن ليُعاد ويُثار الجدل، وتتراجع بعد تدخّل حزبه في سورية دعماً لنظام بشار الأسد، وتماشياً مع السياسة الإيرانية في البلاد.
ثانياً، وهنا يبرز الدور الإيراني، كان حزب الله يُعَدُّ دوماً أكثر أذرعها الخارجية أهمّيةً، وكان مُؤدّياً دوراً أساسياً في تنفيذ السياسات الإيرانية، وليس من السهل أن تتخلّى طهران عن حليف بهذا التأثير. والآن مع إضعاف الحزب بشكل كبير، وغياب نصر الله، وصعوبة إعادة بناء الهراركية العملياتية، كما أشير أعلاه، ألا ترى إيران أنّ هذه فرصة لتطبيق الرسائل التطمينية، التي دأبت ترسلها طهران إلى الغرب بأنّها ستنحو إلى السلم إن نحت إسرائيل، خاصّة أنّ إسرائيل استطاعت أن ترسم معادلة الردع لصالحها خلال الأشهر الماضية؟… هناك منطق الدولة البراغماتي يسود في إيران، كما أن حاجة طهران إلى العودة إلى المجتمع الدولي مُلحّةٌ في ظلّ العقوبات المفروضة عليها، وتخبّط مفاوضاتها مع الغرب، واحتمالية عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وبالتالي، لا يُستبعَد أن تعتبر طهران الثمن حزب الله. نعم، الثمن الأغلى، لكنّه قد يُعَدُّ ثمناً مُلحّاً وأساسياً.
أي فراغ سيتركه حزب الله في لبنان الآن سيعيد توزيع الخريطة، برعاة إقليميين ودوليين
ثالثاً، اغتيال نصر الله، وإضعاف حزب الله إلى درجة تراجع دوره في الساحة اللبنانية، قد يلقيان صدى إيجابياً لدى معارضيه في الداخل اللبناني. لكن في المُقابل، إقليمياً أيضاً، وهنا تبرز السعودية التي لطالما عارضت هيمنةَ الحزب السياسية في البلاد، وهدّدت، لا بل قطعت معوناتها وجمّدت حساباتها تحت هذا العنوان، ما أدخل لبنان نفقَ الأزمة المالية التي يعيشها إلى اليوم. لكن اليوم، ومع غياب أو تفكّك محتمل لحزب الله، تبدو الساحةُ مواتيةً لدور جديد من الدول الداعمة، وتحديداً السعودية، التي كانت إسرائيل، وقبل السابع من أكتوبر (2023)، تسعى إلى التوصل إلى اتفاق معها يكون واحداً من اختراقاتها الأساسية. وبالتالي، فإنّ الفراغ الذي سيتركه حزب الله في لبنان الآن سيعيد توزيع الخريطة، برعاة إقليميين ودوليين يعودون. ويبدو أنّ الرياضَ تدرك أهمّيةَ دورها حين دعت إلى أولوية وجود دولة فلسطينية، ويُؤكّد أنّ المنطقة برسم رسمة جديدة، ومقترحات جديدة، تقوم على نمط جديد من النظام (أو اللانظام) الإقليمي، ما لم تفسده موجةٌ جديدةٌ من العنف التي لا يراهن عاقل بأنّها لن تحدث. في السادس من أكتوبر من العام الماضي (2023) لم نكن نتوقّع أن هذا كلّه سيحدث.
المصدر: العربي الجديد