رغم أنّ استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في قلب طهران جاء بعد ساعاتٍ من استهداف القيادي في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، إلّا أنّ العمليتَين مختلفتان، وإن كان المُستهدِف واحداً؛ إسرائيل. استهدافُ شكر عملياتي، وأمنيّ عسكري، بينما استهداف هنيّة سياسي رمزي. للاستهدافين تأثير مزدوج في حزب الله و”حماس” على التوالي، وفي إيران. لجوء إسرائيل إلى هذا النمط من الاستهدافات، وزيادة وتيرتها، ليس جديداً، صُوِّر بعضها في الفيلم الهوليوودي “ميونخ”، من إخراج ستيفن سبيلبيرغ.
تتعدّد الأمثلة، استهداف قيادات منظّمة التحرير، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، مثل اغتيال وليد زعيتر في روما (1972)، وعملية فردان في بيروت (1973؛ اغتيال كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار)، أو عملية ليليهامر الفاشلة (1973)، التي أودت بحياة نادل مغربي اعتقدت إسرائيل أنّه علي حسن سلامة (اغتيل في بيروت 1979)، واستمرار تلك العمليات لما بعد بيروت، حتّى اغتيال أبو جهاد (1988)، ومن ثمّ أبو إياد (1991)، وطبعاً هناك كثير من الاغتيالات بين تلك المحطّات. ومع نهاية التسعينيات تحوّلت إسرائيل، مع تغيّر نمط التهديد لها، إلى استهداف قيادات “حماس”، مثل محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان (1997)، وفي 2004 اغتيل كلٌّ من أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي (اغتيل قبلهما أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى في 2001)، وتوالت بعدها استهدافات قيادات ميدانية مثل يحيى عياش من “حماس”، أو أحمد الجعبري من “الجهاد الإسلامي”، أو القيادات السلفية – الجهادية التي بدأت تظهر في غزّة في حقب مختلفة، مثل هشام السعيدني (أبو الوليد المقدسي)، وهذه طبعاً أمثلة محدودة، لكنّها تُعبّر عن النمط المُستخدَم من إسرائيل (تتحدّث تقارير أمنية عن استعارة روسيا خلال الحربين الشيشانيَّتين من إسرائيل هذا النمط في استهداف قيادات المقاتلين الشيشان).
تجلت مثل هذه الاستهدافات العملياتة في استهداف صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت مطلع هذا العام (2024)، بحكم قربه من النشاط العسكري في كتائب عزّ الدين القسّام، وشعبيته في الضفّة الغربية، في المستوى العملياتي طبعاً، وفي هذا السياق تدخل عملية استهداف شكر في الضاحية الجنوبية، خصوصاً أنّ إسرائيل اغتالت سلفه الأسبق عماد مغنيّة في دمشق عام 2008. تفكّك هياكل المجموعات المسلّحة ذات التنظيم العالي مثل حزب الله، و”القسّام”، بالاغتيالات الإسرائيلية أمر مشكوك فيه، لكن هذا لا يعني أنّها لن تتأثر بغياب قياداتها العملياتية، وبالتالي ستفكرّ بالردّ. لكن مدى هذا الردّ سيبقى محدوداً في إطار رغبة (وقدرة) طهران في توسيع دائرة الصراع.
استهدافُ فؤاد شكر عملياتي، وأمنيّ عسكري، بينما استهداف هنيّة سياسي رمزي
أما استهداف هنيّة فهو رمزي، وموجّه لإيران أكثر. فهنيّة، ووفقاً لمصادر متطابقة، لم يكن مُنخرطاً في التخطيط العسكري، خاصّة في 7 أكتوبر (2023)، كما أنّ إسرائيل تدرك أنّ السردية التي ستنتج عن هذا الاغتيال ستزيد من صعوبة التوصّل إلى حلول حقيقية للصراع في غزّة، وكما أنّ إسرائيل توجّه رسالةً إلى طهران بقدرتها على استهداف إيران في أيّ توقيت، توجّه رسالة إلى الشارع الداخلي لديها بأنّها تستهدف “أعداءها” في أيّ مكان، علّ هذا الشارع يشعر بتقدّم ما عسكرياً، خاصّة أنّ استهداف هنيّة في الخارج، وليس قيادات الداخل (يحيى السنوار ومحمد الضيف… إلخ)، رغم المحاولات المتكرّرة، يدلّل على ضعف استخباراتي إسرائيلي في غزّة، وتفوّق في خارجها (في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي طهران).
سلوك إسرائيل هذا يقوم على ما تظنه تعزيزاً لقدراتها الردعية، ضمن قواعد الاشتباك مع إيران وحلفائها، وبالتالي تُظهر تفوّقاً عسكرياً ستحاول إيران الردّ عليه للرفع من وزنها الردعي، الذي تراجع أمام إسرائيل مرّات عدّة. من الواضح بعد الهجوم على مدرسة في مجدل شمس، أنّ إسرائيل كانت ماضية في التصعيد، لكنّها تحاول تجنّب مواجهة مفتوحة (مثل بقيّة الأطراف)، لكنّها تضرب أهدافاً منتقاة بعناية، فترفع من تفوّقها الردعي، في توقيت تنشغل فيه الولايات المتّحدة بمنافساتها الانتخابية. وبالتالي، يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحقيق أكبر قدر من الضربات العسكرية، علّه يصمد لحين الانتخابات الأميركية، ولكلّ حادث حديث حينها. لكن الآن، شبح الانجرار إلى حرب إقليمية ما زال قائماً، لكن يُتوقّع أن لا تذهب إليه إيران ولا إسرائيل، ولا ترغب فيه واشنطن. لكن أن تتعزّز هجمات المجموعات القريبة من طهران، وازدياد دورها، سيكونان عنوانَي المرحلة، وتبقى حدّة التوتّر في ارتفاع.
المصدر: العربي الجديد