للسمات الشخصية للمرشّحيْن للرئاسة الأميركية، الرئيس السابق دونالد ترامب ونائبة الرئيس كامالا هاريس، دورٌ مهمٌّ في تشكيل رؤى الناخبين الأميركيين. ويبدو هذه المرّة أن للنائب المرشّح لكلّ منهما دوراً استقطابياً حادّاً، في مجتمع منقسم أساساً سياسياً، ويقوم أيضاً على صفات شخصية ورؤى أيديولوجية، فالانتخابات كما هي بين المذكوريْن، هي أيضاً بين جيمس ديفيد فانس وتيم والز، الأهمّ بين الثنائيات الحادّة في المجتمع الأميركي.
لعلّ اختيار دونالد ترامب فانس (39 عاماً) رفيقاً لحملة ترشّحه للانتخابات المقبلة كان ضربة سياسية، قوية تساعده في تعبيد طريقه إلى البيت الأبيض، خصوصاً أنّ اختياره جاء بعد يوم من محاولة اغتيال ترامب في صورة مشهدَية، وصلت ذروتها وهو يرفع قبضته متحدّياً، ومشجّعاً جماهيره، رغم الدم السائل من أذنه، وتجمّع الحرس عليه لجرّه إلى الخارج، لتدخل الصورة تلك التاريخ الأميركي. في المقابل اختارت كامالا هاريس، والز (60 عاماً)، التقدّمي وحاكم مينيسوتا (تتميّز الولاية بوجود جالية صومالية)، بعد أن مرّ الديمقراطيون في أزمة قيادةٍ تُوِّجَت بانسحاب الرئيس الحالي جو بايدن، وتزايد الانقسام داخل الحزب بفعل الحرب في غزّة، وكانت شخصية والز الأنسب بين مُرشّحين آخرين، لمواجهة القضايا التي يطرحها اليمين الأميركي وفي مقدّمتها ترامب.
سياسات “الهيلبيلي”
لفانس سمات تُظهر تحقيقه الحلم الأميركي في أوضح صورة، بينما يعتبره هو مُحطَّماً، في كتابه أو سيرته الذاتية “Hillbilly Elegy “، وقد تكون الترجمة الأفضل “مرثية الهيلبيلي”، إذ إنّ جذور اللفظ تعود إلى اسكتلندا لتعني “الصديق أو الرفيق المُنعزل”، وهو ما انتقل إلى الثقافة الشعبية الأميركية، فالـ”Hillbilly” باتت إشارةً إلى الريفي الجبلي (المنعزل)، الأبيض الفقير… إلخ، وباتت تحمل معنىً سلبياً في الوصف. ومن ثم، جاء كتاب فانس، الذي تحوّل فيلماً في منصّة نتفليكس، ليعرض حالة تلك الفئة “الأقلّ حظّاً في المجتمع الأميركي”، من الطبقة الكادحة، في العام الذي شهد الصعود الكبير لدونالد ترامب، مُتحدّياً المؤسّسة السياسية، كما يُحبّ أن يقول، وهو ما دفع صحيفة نيويورك تايمز إلى أن تجعل كتابه واحداً من الكتب القليلة التي تُفسّر صعود ترامب.
كانت شخصية والز الأنسب بين مُرشّحين آخرين، لمواجهة القضايا التي يطرحها اليمين الأميركي وفي مقدّمتهم ترامب
دخلت هذه الفئة، وبحسب توصيف فانس، في حالة من الضياع، بعد تحوّل التصنيع في مناطقهم تكنولوجيا، وشعروا بخذلان حليفهم التقليدي، الحزب الديمقراطي، فقلبوا ظهر الولاء نحو الحزب الجمهوري، ولكن بصيغته الترامبية. لم يكن هذا التحوّل، برأيه، سياسياً فحسب، بل أيضاً تحولاً في مستوى القيم التي يعيش عليها هؤلاء، رغم فقرهم، ولعلّ مشهد البداية (في الكتاب والفيلم)، حين يقف الناس في الطريق احتراماً لجنازةٍ، فيسأل فانس جدّته لماذا؟ فتجيب: “نحن أهل الجبل… نحترم الموت”. وفانس هذا الذي عاش مع أمّ مدمنة للمخدّرات، لم يتركها في أحلك الظروف، ورعته جدّته من دون أن تجعله يفقد تعليمه حتى تخرّج في جامعة يال العريقة، أتقن الأكل بالشوكة والسكين، ولبس حزام البدلة الرسمية بلون الحذاء، وتعلم أنّه لا يستطيع لبس حذاء رياضي مع البدلة، هذا كلّه بفضل زوجته ذات الأصول الهندية، التي جاءت من عائلة مستقرّة وغنية نسبياً.
من الريف إلى الخدمة العسكرية
يأتي اختيار هاريس والز في سياق قدرته بين أوساط الديمقراطيين على استقطاب التواصل مع هؤلاء “الأقلّ حظّاً من الأميركيين البيض”، فيقول في لقاء مع “نيويورك تايمز”: “هنا أشعر بالإهانه من فانس (ونظرية كتابه)، من يتحدّث عنهم هم أهلي. أنا من قرية عدد سكانها 400، (والصفوف المدرسية) فيها 24 طالباً، نصفهم أبناءٌ عموماً، مزارعون، وهكذا”، وهو يُكرّر عبارات من قبيل “أصدقائي الجمهوريون”، وينفي أن يصف “الهيلبيلي” بغريبي الأطوار (Weird)، وهو اصطلاح باتت هاريس ومعسكرها يستخدمونه لوصف معارضيهم. إذاً، قد يكون والز عاملاً مهمّاً في استعادة الصوت الأبيض المأزوم، لكنّ الديمقراطيين يتصرّفون في هذا الملفّ بمنطق ردّة الفعل لا المبادرة.
محكّ آخر في السباق الرئاسي الأميركي، بين فانس ووالز، هو الخدمة العسكرية. حارب فانس في العراق، وأورد لاحتلاله ودوره هناك صفحات في كتابه، ويروي كيف أنّ التجربة تلك صقلته، وحين سمّي والز رفيقاً لهاريس، انتقده فانس قائلاً إنّه في أثناء تحضيره للذهاب إلى القتال في العراق انسحب والز من الجيش، تاركاً وحدته العسكرية تذهب من دونه إلى العراق. لكنّ والز كان قد تقاعد من الجيش بصورة طبيعية بعد خدمة في مناطق مختلفة، منها أفغانستان، في تقديم “الدعم للمجتمعات المحلّية”، لا بل لم يشارك فانس نفسه في عمليات قتالية، بل كان صحافياً عسكرياً، لم يرقَ، بحسب “سي أن أن” إلى أن يكون “مراسلاً حربياً”، لكنّه يُمارس حملة إعلامية ضدّ والز، مُعزّزاً صورة البطل الأميركي بين أوساط الناخبين.
إن كان “بروفايل” فانس يُعبّر عن الحلم الأميركي بامتياز، فإنّه ينافس الديمقراطيين في تقديم نموذجٍ عن التنوّع، ويجذب الجمهوريين (تستوجب الإشارة إلى أنّ الأمر نسبي) بحفاظه على قيم الأسرة، التي تشغل الأميركيين دوماً، وقد ازداد هذا الجدل بعد ازدياد النقاشات حول قضايا شائكة في ذلك المجتمع من قبيل الإجهاض، والجندر، وتدريس المثليّة، وثقافة الووك، وغيرها من القضايا الاجتماعية، التي تنعكس دوماً في النقاشات السياسية، لكن والز في المقابل، وبذكاء، يطرح برنامجاً يستهدف الأقلّ حظّاً (وجبات مجّانية في المدارس، ورعاية اجتماعية، وخدمات عامة، خطاب توحيدي… إلخ)، رغم أنّه يُعدّ تقدمياً، لكنه وسطي داخل الحزب الديمقراطي.
اختيار هاريس والز يأتي في سياق قدرته بين أوساط الديمقراطيين على استقطاب التواصل مع “الأقلّ حظّاً من الأميركيين البيض”
غزّة هناك
اتّخذت تلك القضايا طابعاً حدّياً في المجتمع الأميركي، وفقاً للحقبة التاريخية، لكنّها أخيراً باتت وقوداً لانقسام أيديولوجي واضح، حتّى إنّ الحزبين الرئيسين (الديمقراطي والجمهوري) كانا وعاءَي تجميع للأصوات أو آلية، لسنوات مضت، لكنّهما يُعبّران حالياً عن انتماء أيديولوجي واضح في السياسة الأميركية. من الكتب المهمّة التي انتبهت إلى هذا التحوّل،
“?Pickup or Prius”، فقد حلّل السلوك الاستهلاكي للمصوّتين الأميركيين ليرى خياراتهم السياسية بناءً على ذلك، ومن هنا نسبة سيّارة “البكب”، التي يشتهر باقتنائها المحافظون في المجتمع، وهم أميل إلى التصويت للجمهوريين، بينما الذين يقتنون “البريوس”، صديقة البيئة، والاقتصادية، أقرب إلى الديمقراطيين، وهذا ينسحب على السلوك الاستهلاكي في المطاعم، وأماكن السكن (معروف أنّ الولايات المتّحدة تصوّت وفق مناطق تُعدّ محسوبةً على حزب معيّن، حتّى تأتي الولايات المُتأرجحة لتلعب بالميزان)، ومن ثم، الموقف من الهجرة، والقضايا الاجتماعية أعلاه، وغيرها من المحكّات الدافعة إلى الانقسام داخل المجتمع.
وأما ما يخص السياسة الخارجية، فتأتي غزّةُ والحربُ الدائرة فيها، في مقدمة الجدل والسباق الانتخابي، وفي حين لا تختلف مواقف فانس عن المنطق الترامبي بتأييد مطلق لإسرائيل، لكنّه بدأ أخيراً يدعو إسرائيل إلى إنهاء الحرب في القطاع، وإلى إيجاد تحالف مع الدول السنّية ضدّ إيران. في المقابل، يدعو والز، الذي استنكر عملية 7 أكتوبر (2023)، يدعو إلى وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات إلى القطاع المنكوب. لكنّ الصراع السياسي بين الطرفَين يتبدّى بوضوح في مسألة رؤية قواعدهما الحزبية، وتحديداً لدى الحزب الديمقراطي، الذي بات يشهد صعود جناحٍ يساريٍّ يدافع عن حقوق الفلسطينين، ولعلّ دور السياسي المخضرم، وعضو الكونغرس بيرني ساندرز، في إنضاج هذا الجناح يبدو جلياً، لكن بعد الحرب في غزّة، فإنّ عدد هؤلاء ازدادَ، وأصبحَ أكثرَ تأثيراً بحيث أسهم، ولو جزئياً، في تدنّي شعبية جو بايدن المتآكلة لأسباب كثيرةٍ. ولذا سعت هاريس، من اللحظة الأولى، إلى طرح مواقف قريبة من ذلك الجناح، لا بل تسعى الإدارة الحالية إلى التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة بسرعة علّه يحفظ ماء وجه بايدن، والحزب الديمقراطي، ويعيده إلى التنافس في استطلاعات الرأي، ويعطي مجالاً واسعاً لكامالا هاريس، وتيم والز، الذي يُبرز دوره الوسطي مرّة أخرى، فهو حاكم لولاية مينيسوتا استطاع أن ينسج علاقات مع الصوت المُسلم، خاصّة مع الجالية الصومالية الكبيرة هناك مثلاً، ولذا يأمل الحزب أن يُشكّل والز حالةً وسطيةً تقترب من أصوات اليساريين المُؤيّدين للصوت الفلسطيني داخل الحزب.
لا تختلف مواقف فانس عن منطق ترامب في تأييد إسرائيل، لكنّه يدعوها أخيراً إلى إنهاء الحرب في غزّة، والتحالف مع الدول السنّية ضدّ إيران
بانتظار يوم الحسم
تزداد مظاهر الانقسام داخل المجتمع مع كلّ انتخابات أميركية، وقد شهد كاتب هذه السطور تزايدها في كلّ انتخابات تلي التي قبلها، في آخر أربعة منها، غطّاها صحافياً كما تبدّت في حملات المُرشّحين، أو ذلك الجدل الذي صاحب تعيين أحد أعضاء المحكمة الدستورية العليا، أو في رفع منسوب التوتّر السياسي، واللجوء إلى العنف كما حدث في اقتحام الكونغرس (6 يناير/كانون الثاني 2021)، ومحاولة اغتيال ترامب (رغم أنّ دوافع المُنفّذ لم تتكشَّف رسمياً حتّى كتابة هذه السطور). وهذا يجعل من ورقة نوّاب الرئيس ذاتَ أهمّية عالية لدى المُرشّحين الرئاسيين. وأما في ما يخص فانس، فهو يقدّم قصّة نجاحٍ أميركيةً تعلي من قيمة الأسرة، والتنوع داخل المجتمع الأميركي، ويُحسَب بقوّة على ترامب، ففانس الذي انتقد ترامب خلال رئاسته، عاد ودعمه بقوّة، لا بل رفض انتقاده حين تخلّى حلفاء الأخير عنه، من ثم، يُعزّز ترامب صورة السياسي الذي يحفظ الودّ ولا يتنكّر لمن معه، فالسياسة لديه، بحسب ما يظن هو ويُقدّم نفسه، مبدئية لا تتلوّن كما تعمد المؤسّسة السياسية، كما كان ترامب من خارج دوائر السياسة الأميركية، فإنّ فانس هو كذلك، لكنّه أصغر سنّاً، ومن ثم يُقدّم للجمهوريين من يحمل الإرث، لكن من شخص أقرب ما يكون إلى السياسي التقليدي، فيضرب بذلك منافسيه داخل الحزب إن بقوا، ويزيد من مأزق الحزب المُنافس، الديمقراطي الحاكم، الذي يعاني أزمة قيادة تضجّ بها الصحافة الأميركية يومياً، ولا تخطئها لا كاميرات الصحافيين ولا فيديوهات وسائل التواصل الاجتماعي المُتهكّمة على الرئيس الأميركي جو بايدن. ومن ثم، يعدّ تيم والز عند الديمقراطيين لاعباً أساسياً، ويُمثّل شخصية السياسي الوسطي، الذي يُعيد للحزب الديمقراطي وللسياسة الأميركية اعتبارَها، بعد سنوات من تخاطفها من مُؤيّدي ترامب. ولأنّ والز من خلفية جبلية ريفية بيضاء، ويطرح برامجَ للرعاية الاجتماعية بأشكال مُتعدّدة، فإنّه يحمل صفاتٍ تُؤهّله إلى منافسة فانس، ولعلّ الأهم في ما يخص حزبه إعادة الثقة بقيادتها ليستطيع التمسّك بإدارته في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، خاصّة أنّ نائب هاريس قادرٌ على إعادة الاعتبار للسياسة التقليدية، التي لطالما صعد على انتقادها المنافس الأكبر، ترامب، وهي حتماً ليست معركة سهلة لحملة هاريس – والز.
المصدر : العربي الجديد