ركوب المسار الجديد في شبكة قطارات لندن، مسار إليزابيث، نسبة إلى ملكة البلاد الراحلة، مصدرٌ لملاحظاتٍ اجتماعية وأنثروبولوجية متنوّعة، في واحدةٍ من أهم العواصم المختلطة والمتمدينة في العالم، خاصة وأنّ البلاد على أبوابِ انتخاباتٍ تعبّر عن حالةٍ من التوتّرِ السياسي المصحوب بتراجع شعبية الأحزاب التقليدية وسياسيّيها. يقطع القطار العاصمة البريطانية من شرقها إلى غربها، على مسافة مائة كيلومتر، ومن المؤكّد أنّه يسير خارج حدود العاصمة الكبرى، وقد استمر تدشينه عقداً، وفكرة المواصلات في المدينة الحديثة عموماً، مركزية فيما يتعلّق بالتنمية وتوسيع الطبقة الوسطى. وفي حالة “مسار إليزابيث”، الهدف هو فتح المجال أمام مليون ونصف مليون شخص من القوى العاملة، في سوق العمل في وسط لندن (المستحوذ على النسبة الأعلى من فرص العمل) في رحلةٍ لا تستغرق أكثر من 45 دقيقة، كما تعلن هيئة المواصلات في لندن، وهذا يُترك للأيّام للقياس والمساءلة، خصوصاً أنّ بؤر الفقر في المدينة تتوزّع على الجانبين، لكنها تتركّز في شرقي المدينة أكثر، ومنها نيوهام شرقي العاصمة، وواحدة من أفقر الدوائر الانتخابية في العاصمة، ذات الأغلبية من المسلمين ذوي الأصول البنغالية (وتُعَدُّ هذه المدينة، والمقاطعة التي تنضوي فيها أوّل المناطق التي يفوق فيها عدد غير البيض وغير المسيحيين عنهم في البلاد)، والحزب الصاعد هنا حزب الشغّيلة الاشتراكي (Socialist Workers Party) بقيادة السياسي المثير للجدل، جورج غالاوي، الذي فاز قبل أشهر على مرشّح حزب العمّال التقليدي، في انتخابات تكميلية، قبل إعلان رئيس الوزراء المحافظ، ريشي سوناك، موعد الانتخابات الحالية.
غالاوي وحرب غزّة
كانت الرحلة إلى نيوهام يوم إعلان “حزب الشغيلة” ترشيح حليمة خان ممثلة له في الدائرة بحضور غالاوي. ويظهر الانتقال من وسط لندن على قطار مسار إليزابيث التحوّل في اللهجات المحكية، واللباس، مثل ازدياد أعداد المحجّبات، أو الأزياء المحلية، كلّما اتجه إلى الشرق الذي طالما ارتبط دوماً في تاريخ المدينة بأحزمةِ الفقر والعمال الذي بات مصبوغًا بالـ “East End” ، وحكايات جاك السفاح في منطقة وايتشابل، الذي كان في نهايات القرن التاسع عشر يستهدف المُومسات، وبقي لغزاً غامضاً، بكلِّ دلالاتً الحكاية التاريخية والاجتماعية.
ما أن يخرج الشخص من محطّة فورست غيت، يستقبله مبنىً ضخم يُرفع عليه علم فلسطيني كبير، وعلى موقف الحافلات الحمر المحاذي، ألصقت منشوراتٌ معنونة بـ “فلسطين حرّة”، “الانضمام لحزب الشغيلة”، وبخطٍّ عريض كُتب “حطموا الرأسمالية”، وملصق آخر يدعو إلى حضور “مهرجان الأفكار الاشتراكية 2024: الماركسية”، بحضورِ شخصياتٍ يسارية أو قريبة من الشأن الفلسطيني، مثل غادة الكرمي، إيلان بابيه، وطارق علي، ويانس فاروفاكيس، غسّان أبو ستة، جيسون هكل، وغيرهم، بالإضافة إلى ضيوف آخرين منهم الزعيم السابق لحزب العمّال، جيرمي كوربين. لا يبدو حضور التأييد الفلسطيني خارجاً عن سياق المألوف في شرقي لندن، لكن مظاهر الفقر البادية، والخدمات المتهالكة، تشعر وكأنّها بقعة اقتطعت من لندن، وقد انعكسَ هذا الاغتراب المكاني في الاغتراب النفسي المحيط في كلِّ مكان، وانعكس في تجمّع “حزب الشغيلة”.
ما أن يخرج الشخص من محطّة فورست غيت، يستقبله مبنىً ضخم يُرفع عليه علم فلسطيني كبير، وعلى موقف الحافلات الحمر المحاذي، ألصقت منشوراتٌ معنونة بـ “فلسطين حرّة”
مرشّحة الحزب في نيوهام، حليمة خان، شابة عُرفت بكشفها لممارساتٍ وُصِفت بالعنصرية داخل حزب العمّال ضدّ المسلمين، وتصاعد التيّار المؤيّد لإسرائيل فيه، كما عرض “وثائقي” على شاشة قناة الجزيرة الإنكليزية، وكانت الآنسة خان، من الشخصيّات الرئيسية فيه، لأنّها “فضحت ممارسات الحزب حين كانت فيه موظفة”، وقد سبق لها الإقامة في الأراضي الفلسطينية فترة، وهي إقامة مفيدة لها في دعايتها الانتخابية.
انعكس هذا الجو، طبعًا، على تجمّع “حزب الشغّيلة”، وما أن بدأ الحفل متأخّراً، دخل غالاوي وسط تصفيق من الحضور، وتقول إحدى السيّدات من الحضور، من ذوات البشرة السوداء من أصول جامايكية، وهي تصفّق: “لن أمَل في حياتي من الاستماع إليه”. الغالبية من المسلمين، من الأصول البنغالية، لكن هناك وجود من السيخ، كما يُعرفون بعماماتهم المُميّزة، والسود، وبعض العرب أيضاً (هناك مرشّحون من العرب عن الحزب في هذه الانتخابات). وضع خطاب غالاوي خريطة أو فسّر السلوك التصويتي الذي يرغب به الحزب، فبعد التحية بعبارة “السلام عليكم” وبلكنته الشمالية، اعتبر غالاوي هزيمة حزب العمّال (التقليدي المهيمن على المنطقة تاريخيا)، تُعدّ ضرورة “لأن هذا الحزب ينظر لكم أنكم قمامة، ولا يعبأ بكم”. أمّا العامل الأساسي الآخر في التصويت فهو تأييد غزّة، باعتبار أنّ المؤسّسة السياسية لا تعنى بها، وهذا ما تكرّر في خطاب حليمة وحضورٍ آخرين.
المسلمون والتصويت
تُظهر هذه الأجواء جانباً أحادياً، لتفاعلاتِ السياسة البريطانية والانتخابات، فعلى الجانب الآخر، أو إن اتجهت إلى الغرب، بقطار مسار إليزابيث، نحو وسط لندن، ووسط الجدل السياسي على عتباتِ ويستمنستر، فإنّ الصورة، وعلى عكس التوقّعات مغايرة، ففي ظلِّ التظاهرات المستمرّة، المُطالبة بوقف الحرب في غزّة، وتوسّع القواعد الاجتماعية المطالبة بذلك، وتوسّع مظاهرات طلبة الجامعات، كانت التوقّعات أن تكون الحرب في غزة عاملاً أساسياً في الانتخابات البريطانية. ولكن من خلال متابعة نقاشات المرشّحين، والمناظرات، واستطلاعات الرأي، لا يبدو أنّ غزّة ستكون عاملاً أساسياً في تغيير بنيوي في السياسة البريطانية، وفي هذا إثارة لأسئلة في الشرق الأوسط، ترتبط بمقولاتٍ لمؤيّدي حركة حماس عن تأثيرات عملية السابع من أكتوبر (2023) في غلاف غزّة، خاصة فيما يتعلّق بإعادة القضيّة الفلسطينية إلى واجهةِ الأحداث.
ولكن هذا التأثير، وإن كان واقعياً، ما زال الحكم عليه مرهونًا بالانتخابات الأميركية بشكل أكبر من البريطانية، ذات الطابع المحافظ والاستقطاب الحاد في القضايا المحليّة، بحكم طبيعة النظام السياسي تاريخيًا. إضافة إلى أنّ التأثير المتوقّع الأكبر، وفق استطلاعات الرأي، هو فقدان حزب العمّال أصوات المسلمين التقليديّة، لصالح حزب الخضر، والليبراليين الأحرار، بدرجة أقلّ، وأيضاً حزب الشغيلة المنحصر في مناطق محدّدة، ومحدودة، وهو أمر قد يُفقد الحزب الأغلبية، حسب بعض التوقّعات الانتخابية في البلاد. ويؤكّد هذا، قد يحاجج بعضهم، على تأثير غزّة في السياسة العالمية. ولكن حتى وإن ثبت هذا اليوم (4 يوليو/ تموز)، فإنّ هذا يعني فقدان الصوت المسلم البريطاني مظلّة واحدٍ من الحزبين الأساسيين: “العمال”، وبالتالي، ينسحب هذا الصوت إلى مرشّحين غير تقليديين. ويبدو أنّ غالاوي يعي ذلك بشكل جلي. وتذكّر هذه الحالة بتوصيف أميركي لحالة صعود الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، على حساب “مناهضة المؤسّسة السياسية”، وعلى حساب اليسار (الحزب الديمقراطي) الذي بدأ يتجاهل الطبقة العاملة، بعد منتصف الثمانينات، كما عرضت في سيرة أميركي عادي من المناطق المهمّشة في رواية “Hillbilly Elegy” التي تحوّلت إلى فيلم لاحقاً، وتشير، بوضوح، إلى أنّ صعود ترامب اقترن بفشل الحزب الديمقراطي التقليدي، بمواكبة التحوّلات لدى القواعد التقليدية، ولكنها في الحالة الأميركية ارتبطت بتوجّه تلك القواعد نحو اليمين مع ترامب.
لا يبدو أنّ غزّة ستكون عاملاً أساسياً في تغيير بنيوي في السياسة البريطانية
يتوقّع أن تتكرّر هذه الحالة في بريطانيا، وبين أوساط المسلمين. ولكن، وبحكم الحديث عن أقليّة هنا (يشكّل المسلمون نحو 6% من عدد سكّان بريطانيا)، ستُنسج التحالفات، مع شخصياتٍ وأحزابٍ من خارج المؤسّسات التقليدية أو مناهضة لها، لكن هذا يصعُب أن يتحوّل إلى تيارٍ منافس. وفي ظلّ تزايد اليمين، وهي حالة أوروبية عامة حاليا، كما أظهرت نتائج انتخابات الاتحاد الأوروبي، سيُدفَع المسلمون (وهم ليسوا كتلة تصويتية واحدة بالمناسبة)، إلى إعادةِ التفكير بجدوى المشاركة، وهو سؤالٌ يتكرّر لدى أوساط بينهم بين الفينة والأخرى، بشكلٍ يعبّر عن حال الاغتراب والافتراق عن غربي المدينة مجازاً، كما يظهر ذلك الافتراق على قطار مسار إليزابيث.
مبادرات عدّة طرحها المسلمون في الانتخابات المتعدّدة خلال العقد الأخير في بريطانيا، حيث أجريت الانتخابات، وتبدّل زعماء الأغلبية أكثر من أربع مرّات، مترافقة مع الاستفتاء على استقلال اسكتلندا، وكذلك الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعديد من الانتخابات المحليّة والتكميلية، إلى درجة أنّ ما حافظ على ريشي سوناك في السلطة، طوال الأشهر الماضية، رغم افتقاده شرعية الانتخاب المباشرة، ضيق البريطانيين بعمليات الاقتراع وكلفتها العالية، لكن حالة عدم الاستقرار السياسي، تتناقض مع النظام السياسي البرلماني، جعلت من هذا الخيار حتمياً.
الغالبية في مبادرات المسلمين، كانت تقوم على الحثّ على التصويت بوصفه حقّاً مكتسباً، ويعبّر عن مواطنة المسلمين البريطانيين
بالعودة إلى مبادرات المسلمين البريطانيين، وكاتب هذه السطور غطّى كثيراً منها على مدار السنوات الماضية، كانت تتنوّع من قبيل تأييد الاستقلال الإسكتلندي، أو معارضة الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو مبادرة مشرف حسين في نوتنغهام، وهو شيخ أزهري، أقرب إلى المدرسة البرلوية (عكس الغالبية بين أوساط مسلمي بريطانيا من ذوي الأصول الباكستانية الديوباندية)، بالتعاون مع المجلس الإسلامي البريطاني، وتقوم على حثّ المسلمين على لعبِ دورٍ مؤثرٍ في الانتخابات، بغضّ النظر عمّن يصوّتون، وتقوم على أنّ الكتلة التصويتية المسلمة مؤثّرة، والغالبية في مبادرات المسلمين، كانت تقوم على الحثّ على التصويت بوصفه حقّاً مكتسباً، ويعبر عن مواطنة المسلمين البريطانيين. وفي المقابل، كانت هناك أصوات متشدّدة ترفض الانتخاب، تراجعت مع ذهاب كثيرين من قيادات هذا التيار إلى القتال في سورية، خلال حقبة صعود المجموعات المسلحة فيها، ولكن حال التخبّط هذا يُبقي مثل هذه الرؤية المتشدّدة تطلّ بين الفينة والأخرى، خصوصاً أنّ اليمين البريطاني، بقيادة نايجل فراج (أشد دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي )، يشارك في الانتخابات هذه المرّة، مستغلاً حال الانقسام الحاد بين “المحافظين” (يمين الوسط) و”العمّال” (يسار الوسط)، بإعلاء أجندة اليمين، مثل وقف الهجرة، وزيادة الإنفاق العسكري، والأمن… إلخ، عبر المزاودة على المحافظين بغية دفعه إلى انتهاج سياساتٍ يمينيةٍ أكثر، وبالتالي، يحقّق فراج وجماعته (حزب الإصلاح Reform)، أجندتهم، وهذا مدخلهم إلى أكثر عدد من المقاعد، وتلك وصفة لتعميق الانقسام داخل المجتمع.
على ذلك، تزداد صعوبة المسلمين البريطانيين، ومرّة أخرى هم ليسوا كتلة تصويتية واحدة، عكس ما يجري تصويرهم، فمشكلاتهم البنيوية أكثر تعقيداً من مجرّد التعاطف الصادق، والحقيقي، مع غزّة والحرب الجارية فيها، ويبدو أنّ هذا الموقف سيؤثّر في الانتخابات، لكنه سيعقّد موقف المسلمين أنفسهم، إلا إذا جاءت الانتخابات بمفاجأة غير متوقّعة تغيّر في بنية السياسة البريطانية. مثل هذا الواقع المعقد، والخيارات الصعبة أمام المصوّتين المسلمين البريطانيين، وفي ظلّ استمرار المقتلة في غزّة، وما ينجم وسينتج عنها من سرديات، تشي بأنّ حال المسلمين في بريطانيا، وفي أوروبا عموماً، يتعقّد باستمرار، ولعلّ في الانتخابات ما وراء الأطلسي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل ما يشي بأن العالم يتغيّر بعد الحرب في غزّة، ونحن ننتظر كما ننتظر قطار “مسار إليزابيث” الذي لا يخطئ مواعيده بكثرة.
المصدر: العربي الجديد