لا تخرج زيارة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للشرق الأوسط عن سياق الفضاءات الجديدة التي تبحث عنها روسيا لسياستها الخارجية. فالسياسية الخارجية الروسية، وإن ارتبطت بالعوامل الموضوعية لأي دولة، والمتمثلة في الحفاظ على المصالح أو البحث عن مصالح جديدة، إلا أن هناك ما يميز السياسة الروسية دوماً، وهو العامل الأساسي في تحديد اتجاهات سياستها الخارجية، المرتبط بالطبيعة الجيوبولتيكية للدولة.
شعار الدولة الروسية هو النسر ذي الرأسين المتقابلين، أحدهما يتجه شرقاً والآخر غرباً، ما يعبر عن الموقع الجيوبولتيكي الروسي، والذي يحدد مسارات سياسته الخارجية، بمعنى أن هذا الموقع عامل موضوعي يتحكم في السياسة الروسية، بغض النظر عن نظام الحكم، سواء أكان قيصرياً أم شيوعياً أم على الشكل الحالي.
هذا العامل ارتبط، ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بعامل استعادة الدور الامبرطوري الروسي، والذي عبر عنه الرئيس بوتين في خطاب حالة الاتحاد الروسي منذ أقل من اسبوعين، بقوله: إن انهيار الاتحاد السوفيتي اكبر صدمة جيوبولتيكية للتاريخ الروسي في التاريخ الراهن.
التوجه الروسي الشرق أوسطي لا يخرج عن هذا السياق، فمع انهيار الاتحاد السوفيتي بدا التيار التغريبي مسيطراً على إدارة دفة السياسة الروسية الخارجية، بحيث سعى إلى علاقات شراكة استراتيجية مع الغرب، وكذلك علاقات ندية مع دول الكومنولث، التي تعد من احدى أهم المصالح الحيوية لروسيا. وكذلك على المستوى الداخلي، سعت النخبة التغريبية، والتي تسمى أيضاً بالبطرسيين (نسبة إلى “بطرس الأكبر”، الذي يعد أبو التغريب الروسي، حين سعى في القرن السادس عشر إلى تحويل روسيا إلى دولة على الطراز الغربي) إلى احداث تحولات في روسيا نحو السوق المفتوحة والخصخة، وفق ما عرف بعلاج الصدمة، أي التحول المباشر.
لكن توسيع حلف شمال الاطلسي نحو الشرق، وبروز أزمات اقتصادية-اجتماعية في الداخل الروسي بسبب سياسات العلاج بالصدمة، واستبعاد روسيا من التدخل في الشأن البلقاني، كل ذلك دفع إلى بروز تيار أكثر نزوعاً نحو الشرق، وهو النزوع الأوراسي، بسن مبدأ الجوار القريب، واعتبار مناطق آسيا الوسطى والقوقاز مناطق حيوية لروسيا، تجب حمايتها ولو بالتدخل العسكري. وبالفعل، فقد تدخلت روسيا في اذربيجان، وجورجيا، وشنت حربها الدموية في الشيشان، وبدأت بالتوجه شرقاً بانشاء التحالفات مع دول كالهند والصين، بشكل يسعى لاستعادة إرثها كقطب في النظام الدولي.
ومع خروج روسيا مهزومة من الشيشان في الحرب الأولى – التي اعتبرها العديد من المراقبين هزيمة مثيرة للصدمة، مشبهين إياها بهزيمة روسيا أمام اليابان عام 1905، والتي وصفت آنذاك بأول هزيمة أمام شعب غير أبيض- بدأت المؤسسة العسكرية تدفع باتجاه الانتقام واستعادة الإرث التوسعي الروسي. وكان من نتاج ذلك أن وصل فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة، وبروز النزوع الأوراسي بشكل أكبر، فشنت الحرب الشيشانية الثانية بشكل أعنف، وظهر مبدأ السياسة الخارجية الروسية، ومبدأ العقيدة العسكرية الروسية، وكان شعار مكافحة الارهاب حاضراً.
في هذا السياق، يمكن فهم التوجه الروسي الشرق الأوسطي في ظل تزايد عزلة روسيا مع الثورات المخملية، إن جاز التعبير، في كل من جورجيا، وأوكرانيا، وقيرغيزيا، وكلها تقع في المجال الحيوي الروسي. وعلاوة على ذلك، فإن روسيا تشهد سلسلة من التظاهرات المختلفة الأسباب، والتي دفعت الرئيس بوتين إلى الإعلان مراراً أن روسيا لن تسمح بثورة برتقالية فيها.
وهذه التحولات تكتسب فاعليتها مع طرح الادارة الاميركية للاصلاح كأولوية في أجندة الادارة الثانية للرئيس بوش، والحال كذلك مع وجود “كونداليزا رايس” وزيرة للخارجية الاميركية، والمعروفة بموقفها المتصلب تجاه الاصلاح في روسيا، كما ظهر ذلك مؤخرا في تصريحاتها عقب زيارتها الأخيرة لروسيا.
دعوة بوتين إلى مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط تستضيفه موسكو، دعوة لا شك تدفع إلى التوازن مع دور الرعاية الأميركية، وتوجب الترحيب بها، لكن الاشكالية تكمن في الدور الذي تسعى روسيا لممارسته. فهو دور مأزوم، أي أن التوجه إلى الشرق الأوسط هو نتاج أزمة على صعيد علاقات روسيا الدولية وسياساتها الداخلية، فمتى تراجعت الأزمة، تراجع هذا الدور. وكان من باب أولى لروسيا أن تجلس مع الرئيس الشيشاني المعتدل، الذي قتلته، لاحلال السلام في تخومها القريبة لتخرج من أهم أزماتها، قبل أن تفكر باحلال السلام في الشرق الأوسط من موسكو.