الحادثة المأساوية التي ضربت منجما في مقاطعة سوما في تركيا، وأودت بحياة المئات، وما زال البحث جارياً عن آخرين لحظة كتابة هذه السطور، وصفتها وسائل الإعلام بأنها أكبر كارثة طبيعية تشهدها تركيا في سنوات. ولعل على جانب المأساة الإنسانية يبرز المأزق السياسي الذي وضع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نفسه فيه. ابتداء بتصريحات اعتبرها كثيرون حين بدأ باستذكار حوادث تاريخية مشابهة في بريطانيا ودول غربية، تعود إلى القرن الماضي، وكانت عبارات غير مناسبة في ظل حالة الخوف والحزن. وجاءت الصور لأحد مساعديه وهو يركل أحد المحتجين في المدينة، بشكل أثار وسائل الإعلام والاحتجاج في تركيا، كما أن هناك صوراً أخرى يشك فيها أن أردوغان نفسه تعارك مع محتجين. كل هذا وضع أردوغان خاصة أن أزمير (المدينة الرئيسية لسوما) وصفت دوماً كمعقل لمعارضة أردوغان، وهو مما فاقم من أزمته على ما يبدو، وهو ما يفسر حالة التوتر التي بدا فيها هو ومعاونوه. يحسب لأردوغان النهوض الاقتصادي المعاصر لتركيا، بل إنه قدم نموذجاً لحزب شبه محظور استطاع وعبر ميكانزمات الديمقراطية وفي إطار النموذج العلماني أن يلعب دوراً أساسيا في تحويل تركيا من دولة ترزح تحت وطأة الديون إلى قوة اقتصادية إقليمية، كما أنه استطاع وفي غضون سنوات منذ أن كان رئيسا لبلدية اسطنبول أن يجعل من الفساد أمراً صعباً في تركيا. ومؤخراً اجتاز أزمة متصاعدة في الانتخابات البلدية، رغم أن معارضيه يعزون ذلك لمنع وسائل التواصل الاجتماعي، وسياسات وصفت بـ «تكميم الأفواه»، لكنه كان قد تجاوز الأزمة. ومع ذلك يلاحظ أخيراً أن نزعة فردانية تتزايد لدى أردوغان، وهذه تدفعه إلى اتخاذ قرارات أو سياسيات ستشعل المعارضة ضده، كما أن صورته الدولية ستهتز، باعتبار أن كونه رئيسا منتخبا ديمقراطيا هو أقوى أسلحته، ولكن ذهابه في سياق تجاوز كل ذلك سيزيد من معارضته الداخلية. تركيا في عهد أردوغان تحولت كما أشرنا إلى قوة اقتصادية إقليمية، ولكن هذا لن يشفع له إذا ما تزايدت المعارضة بالداخل بسبب مثل هذه التصريحات والسياسات، ولعل الإشارة المهمة هنا هي أن النموذج التركي لكي يستمر ويطرح كبديل تعددي في العالم الإسلامي، فلا بد ألا يتحول إلى حكم فرد أو سلطنة جديدة كما تشير بعض التقارير. الأمر الأهم أن استقرار تركيا وبقاء نموذجها الديمقراطي يعد حاجة ملحة إقليمية لصنع نوع من التوازن في النظام الإقليمي، خاصة في ظل غياب مصر والعراق المشغوليتين بأزمتيهما الداخلية، وتزايد الوزن النسبي لإيران، وبالتالي فإن فقد أردوغان شرعيته في الداخل، فإن وضع تركيا سيهتز لا محالة. الأمر الآخر يرتبط بالوضع السوري، فإن اهتزاز الدولة التركية سيجعل من انتقال التوتر السوري إليها وعلى الحدود على الأقل مسألة سهلة، خاصة أن الحكومة التركية بالكاد قادرة على التعامل مع الصراع الدموي هناك على تخومه.
المصدر: العرب