لم يتح لي، للأسف، خلال السنوات الأربع الماضية، ولارتباطات العمل وغيرها من أسباب، زيارة بلدي الأردن إلا مرات قليلة، ولفترات محدودة لا تتجاوز الأسبوع في أحسن أحوالها.
ولم تكن زيارتي الأخيرة خلال هذا الأسبوع استثناء، إلا في حدود أنها أتاحت لي الكثير من النقاشات والملاحظات والحوارات مع بعض المراقبين وصناع الرأي والأناس العاديين، وأيضاً بعض الزيارات خارج العاصمة عمان. وقد خلصت إلى مجموعة من الانطباعات التي تولدت من ذلك كله.
وقد ارتبطت الملاحظات تلك، بشكل أو بآخر، بتطورات العنف الاجتماعي المتزايد، كما تنشره الصحف المحلية، وكذلك الانتهاكات التي مارسها بعض رجال الأمن، وبالتالي ارتباطها بشكل طردي بتصعيد العنف ذي الطابع الاجتماعي-السياسي-الاقتصادي.
وقد وجدت بالتالي أن مسألة توزيع التنمية بين المركز والأطراف وردم التباين الواسع والجلي بينهما باتت مسألة ملحة تدخل في إطار الأمن الوطني.
ثلاثة تطورات أساسية في العاصمة عمان يمكن ملاحظتها: التطور العمراني الكبير، وخاصة على مستويين: الانماط الهندسية الحديثة التي تذكر بالمباني الموجودة في المراكز المالية العالمية في نيويورك، ودبي، ومدن النمور الآسيوية وغيرها، وهي إن كانت مشاريع بناء لم تكتمل بعد، لكنها قطعت أشواطاً كبيرة تؤشر على الأنماط الهندسية التي ستتخذها في المستقبل المنظور. وأما المستوى الثاني فيرتبط بالبنية التحتية من الجسور والأنفاق والطرقات الأساسية لأية عملية تنموية تعد فيها الموصلات جزءاً رئيسياً.
وأما التطور الثاني، الذي لاحظته فارتبط بتطور النظام المصرفي المالي، إبتداء من النظام الضريبي، ومستوى الخدمات المصرفية التي تؤشر على ارتباط واندماج أكبر في النظام المصرفي العالمي، وارتفاع مستوى الدخول بشكل ملموس، وصولاً إلى نوع الخدمات المالية التي تشهد توسعاً أفقياً يشمل شرائح أوسع من الناس، كحالة انتشار بطاقات الائتمان بأشكالها المختلفة مثلاً، وهو الأمر الذي يرتبط طردياً بالتطور الثالث الذي لاحظته، وهو ازدياد الأنماط الاستهلاكية الحديثة على مستوى السلع والخدمات، ما بات يفرض طلباً أكبر على القوى العاملة، وبالتالي يرتبط ذلك أيضاً بنمط مديني يعتمد على مزيد من الاستقلالية للشبان، وتوسع عمل المرأة في مجالات مختلفة ومتنوعة من الفضاء العام.
هذا النمط المديني، إن جاز التعبير، عمّاني بامتياز، أي يرتبط بضخ الاستثمارات بالمركز، من دون أن يكون هناك تطوير مواز، بالمقابل يركز على الأطراف، أي ما هو خارج عمان. أو على الأقل، كي لا أخرج من إطار الانطباع الشخصي والملاحظة الخاصة، لا يوجد توسع كاف في المشاريع التنموية، على مستوى البنية التحتية، بمعناها الواسع، بشكل تجعلها جاذبة للاستثمار، خاصة أن ثلثي سكان الأردن، هم من سكان المحافظات، بمعنى أنهم قوة استهلاكية مغرية. وهو ما سيترتب عليه تقليص حجم التباين الواضح مع المركز، لا انهاؤه، لأنه لا سبيل لذلك.
التباين بين المركز والأطراف، كان دوماً مصدراً أساسياً للاحتقان، والشعور بالغبن. والأمثلة تتعدد من العالم ككل والذي بدوره، يقوم أيضاً دوماً على مركز وأطراف، ولكن الدول الناجحة دوماً يكون التباين فيها بين الطرفين محدوداً. حدة الشعور بالغبن، بأشكاله كافة، تتزايد أكثر وأكثر وتتخذ شكلاً أكثر عنفاً، إذا ما ارتبط ذلك بالدولة المسؤولة عن تلك التنمية، أو ما يرتبط بها كأحد أجهزتها الأمنية، كما هو الحال في أكثر من حالة ما تزال الدولة تعيش تداعياتها.
على ذلك من المهم أن تكون المحاسبة والمساءلة بحجم الذنب، وفق القانون بالطبع. ولكن على المستوى العام، يتوجب التذكر أن السياسات العامة، بالإضافة إلى كونها حالياً حقلا أكاديميا علميا، ترسم بالمسطرة والقلم كما نقول في الدارج الشعبي، يتداخل فيها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المرتبط بمدد زمنية، ومراحل مرتبطة بأهداف.
المصدر: الغد