القائمة تطول.. أزمة الدولة العربية مرة أخرى

لن أدعي شيئاً استثنائياً حين أذكر أني كنت دوماً أضرب مثلاً على السودان عندما اتحدث عن أزمة الدولة العربية، وللمفارقة، قبل أن يكون موضوع انقسام الشمال عن الجنوب موضوع الصفحات الأولى. أما لماذا، فلأنني كنت أرى الأنظمة العربية تتعامل مع أزماتها البنيوية بالتأجيل لا بعلاج الأزمة من الجذور. ولعل التجربة العراقية أيضاً مثال صارخ أن سنوات التحديث القسري لم تجد نفعاً، فعادت النزعات الأولية الدينية على شكل اقتتال، وعنف، وسيارات مفخخة، واستخدام للمثقب الكهربائي.


السودان، وإشكالية الشمال-الجنوب، إشكالية قديمة تعود بجذورها لما قبل الاستقلال. والأمثلة على الأزمات البنيوية تتكرر. فها هي الاضطرابات في تونس تضرب البلاد، وتعلن الحكومة التونسية عن مقتل 14 شخصا في المصادمات بين قوات الأمن والمتظاهرين في مدينتي تالة والقصرين في وسط غرب تونس، والاحصائية مرشحة للتزايد. والجزائر المجاورة، تشكو من ارتفاع الأسعار.
أجل، الدول المتقدمة تشهد تظاهرات، وفي أحايين كثيرة عنفا مصحوبا بشغب، ولكن الفرق هو أن تلك الدول تناقش تلك الأزمات بشفافية، وتحشد لعلاجها الخبراء.


حكاية الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على “قسوة الحكومة الاقتصادية”، تعبير عن الرؤية المستقبلية لدى الشبان العرب، أو هل أقول انعدام الأمل؟
الواضح أن بروز مشكلات الدول العربية البنيوية، يرتبط بحدتها وبروزها في الإعلام، ولا ترتبط بوجود المشكلة ذاتها، فالمشكلات والأزمات البنيوية كنار تغطيها الرماد، ما تلبث أن تشتعل بأقل ريح تواجهها.
والإشكالية أن قضية بناء الأوطان مغيبة، أو مؤجلة باسم التحرير، أو الكرامة الوطنية، أو التكامل، أو الوحدة، أو حتى بسبب الموقف الأيديولوجي. ها هي مدارس تونس تغلق حتى إشعار آخر، وفقاً لوكالات الأنباء، ولعل الذين ثمنوا دوماً في تونس “قانون الأحوال الشخصية” مستخدمينه ليغطوا على الأزمة السياسية-الاقتصادية، يخبروننا عن هذا.


وفوق هذه الأزمة، أن الأنظمة انتجت فوضى في المفاهيم، وذلك ليوافق وجودها في السلطة، فهي ليبرالية، وعلمانية، ودينية، ومحافظة، وقتما تشاء. أما الشعوب فلا يمكنها أن تطالب بهذا أو ذاك.
استفتاء السودان هو آخر فصول فشل الدولة العربية في التكامل، وعدم قدرتها على علاج أزماتها البنيوية. في الإقليم الفرنسي من سويسرا، ورغم طغيان اللغة الفرنسية وثقافتها، فإنك لن تجد علماً فرنسياً أو حركة تطالب بالانضمام لفرنسا. من المؤكد أن المقارنة ظالمة بين سويسرا والسودان، ولكن من المهم أن نلاحظ أننا نقارن بين دولتين من خلال اتباعهما لسياسات تكامل مختلفة، وكل دولة وفقاً لمواردها، وقدراتها.


ومثال آخر، هو أقرب للحالات الاحتجاجية في العالم العربي، يتمثل في العنف الطلابي الذي شل بريطانيا، وفي لندن العاصمة تحديداً، وترافق مع شغب في الشوارع تسبب به طلبة احتجوا على رفع الحكومة للرسوم الجامعية ثلاثة أضعاف. وقد وقع جرحى أيضاً، وسيارة ولي العهد وزوجته تعرضت لهجوم، ولكن تعامل الشرطة كان خاضعاً للرقابة ومعرضاً للمساءلة، وهناك هيئة للتحقيق في سلوكها.


الإشكالية لا ترتبط بهذه الدولة أو تلك، بل هي أزمة بنيوية تعاني منها الدولة العربية، من خلال تأجيل أزماتها وترحيلها، ولكنها ما تلبث أن تطفو إلى السطح. لا أعرف، ويتساءل كثيرون مثلي، كم من أجراس الانذار تحتاج الدول العربية لتدرك أنها في أزمة، أو على حافة أزمة؟ المؤشرات كثيرة، ويمكن تتبعها ووضع خطط علمية لمواجهتها والتعامل معها. ولكن لتنفيذ هذا يتوجب الانطلاق من مبدأ أساسي واحد، وهو الاعتراف أننا في أزمة، وهو الأمر الذي لا تريده الحكومات العربية منذ عهد الاستقلال.

المصدر: الغد

Exit mobile version