الاكاديميون وردم الفجوة مع المجتمع

ولكن الباحثين، كالفنانين، فصاميون، ففي حين ينظرون الى ابنائهم يلعبون ويسعدون بذلك. يستمرون في اذهانهم في محاولة حل المسائل التي تسكنهم، وفي إعادة تشكيل منطق احداث تاريخية معقدة، أو منطق عمل علاقات اجتماعيه معقدة يمضون كل يوم من الاسبوع  في تحليلها  (موريس غودلييه)

الباحث الاكاديمي هو كاتب بالضرورة، وبالافتراض في العالم الثالث، أما الكاتب فليس باحثاً بالضرورة. والمقصود بالباحث هنا بالمفهوم الأكاديمي، والسائد أن الباحث يتوجه بإنتاجه للنخبة، على عكس الكاتب الذي يوجه معظم انتاجه للعامة.
وعلى أن غاية البحث لدى الاكاديمي ترتبط بعواطف غامضة لا تبرر، وبعوامل موضوعية أخرى، فما الذي يدفع أحدهم للبحث في تاريخية فكر ما؟ أو في انثروبولوجيا اقوام فنيت منذ قرون؟ وللتذكير، نحن نتحدث هنا عن البحث في العلوم الاجتماعية والانسانية اكثر من الحديث عن الباحثين الاكاديمين في مجال العلوم التطبيقية بحكم ان تخصصاتهم لها معاملها ومختبراتها ليصب فيها انتاجهم العلمي المراد منه، في الغالب الأعم، خدمة البشرية عموماً.


أما العلوم الاجتماعية فالعقل البشري فرديا وجمعياً هو المستهدف، ولذا فإن علاقة الباحثين والكتاب أقرب للمجتمع وعقله بحكم التواصل المباشر. ولذا من الملاحظ أن الدول المتقدمة تتميز باستخدام الباحثين لمنابر الكتاب، والصحف أبرزها. فعلى حين أن الإعلام الغربي تجاوز انخراط الاكاديميين في الكتابة الصحفية منذ زمن حيث تجد، وفي جردة سريعة، فإن كتاب الباحث الاكاديمي هناك يبدأ بمقالة في صحيفة، ومن ثم دراسة اكاديمية في دورية علمية ليصار الى كتاب.


الحلقة الاولى هذه، أي الكتابة في الصحف، في الحالة العربية ما زالت في بداياتها، فنشاط الباحثين الاكاديميين ما زال محصوراً في الدوائر العلمية، ولعل استثناءات قليلة قد لا تشكل حالة الظاهرة كما هو في الغرب. ومن هنا فإن الأكاديميين مطالبون بهذا الدور. فالكتاب يمارسون دوراً اساسياً في توسيع مؤازرة القراء لقضاياهم والتي هي قضايا المجتمع، في الغالب أيضاً، إلا ان الاكاديميين اقدر على ممارسة دور تنويري للقراء (حكاما ومحكومين) من خلال تقديم رؤى علمية لقضايا معاصرة، وبلغة تبسيطية.


ومن هذا المنطلق، تقع على كاهل الباحثين مسؤولية تجاوز أسار الحرم الجامعية أو الدوريات العلمية التي لا يقرؤها الا المتخصصون، وبلغة معمقة اكاديمية هي من شروط البحث العلمي، ليصبحوا على تماس مباشر مع المتلقين غير المتخصصين، وهو الأمر الذي سيفيد في حلولهم برؤاهم الرصينة، مكان ما بات يعرف الآن بكتاب الانطباعات، الذين يملؤون العديد من صفحات وأعمدة الصحف العربية.


ومن ناحية أخرى، هناك ثلاثة شروط اساسية يتوجب على المجتمع (سلطة ومؤسسات) أن يوفرها للباحث الاكاديمي وهي الحرية، والاستقلالية الاجتماعية-الاقتصادية، ومنابر للنشر. وأما الحرية فدورها أساسي لكل المشتغلين بالفكر والانتاج العقلي، فالتحوطات والخوف لن تعطي نتائج حقيقية لإشتغالات الباحثين العلمية.


كما أن عملية البحث هي معاناة حقيقية ذاتياً للباحث، وموضوعية وفقاً للمبحوث، ولذا  فإن توفير الظروف الاقتصادية-الاجتماعية للباحثين تساهم في عملية الإبداع العلمي دون أن يكون مضطراً للتفكير في مشاكل يومية وتوفير لقمة العيش ليسعى إليها خارج البحث العلمي، مما يستنزف قدراته البحثية في انتاج ركيك يتطلبه السوق.


أما توفر منابر النشر فتعد مسألة أساسية لتطوير الانتاج العلمي، وتحافظ على النتاجات المتميزة للمتخصصين فتبقى سجلاً لمجتمعاتهم، دون أن يضطروا للبحث عن منابر للنشر في الخارج.


وعدم توفر الشروط الثلاثة السابقة يجعل من البحث العلمي غير محقق لغاياته سواء للباحث أو للمجتمع ككل. وفي الحالة العربية فإن نظرة عامة على حجم الإنفاق العربي على البحث العلمي بجانبيه الانساني والتطبيقي، ومراجعة ارقام تقرير التنمية البشرية 2003، تظهر مدى فداحة الفجوة بين المتخصصين والمتلقين، فهلا تقدم الأكاديميون خطوة والمجتمع خطوة أخرى.

المصدر: الغد

Exit mobile version