مجزرة القذافي

أعتقد أن الديكتاتور معمر القذافي، أضاف بعداً سياسياً لتعريف “الإبادة” (Genocide)، ورغم أنه لا يوجد تعريف جامع مانع لها إلى الآن، إلا أن معظم التعريفات تربطها باستهداف مسبق النية لجماعة بشرية معينة وفقاً لجنسها، أو ديانتها، أو طائفتها، ولكن لم تكن التعريفات المختلفة، تشمل استهداف البشر وفقاً لتوجهاتهم السياسية. ويبدو أن الأنظمة السياسية الرسمية في العالم العربي، والتي وصفتها مجلة “الايكونومست” بـ”المتعفنة بالقمع”، تفاجئ بنية العلوم السياسية بمثل هذه التغييرات في الحقل.

أسلوب التعامل التسلطي أمر معتاد من نظام كنظام القذافي، ولكن لم يكن يثير القمع الممارس من قبله، خلال حكمه منذ عقود أربعة، ساكناً، وذلك بسبب المعطيات السياسية؛ فتارة كان داعماً لما يعرف بحركات التحرر الوطني، وهي حركات في معظمها، إلا ما رحم ربي، حركات إرهابية، وتارة كان داعماً للغربنة، وفتح علاقات “صحية” مع الغرب، والثمن بطبيعة الحال كان النفط، كما كان التحول الأخير في علاقات ليبيا مع العالم الغربي بأثمان التراجع عن “البرنامج النووي”، و”التعاون الاستخباراتي” ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وما يعرف بـ”صفقة لوكيربي” بطبيعة الحال.

وبحكم طبيعة هذه “المصالح”، فقد جاءت المواقف رخوة جداً، وليست بمقام الحدث المفزع وما يجري في ليبيا اليوم. تاريخياً، لم ينتقد القذافي، والعديد من الطغاة، عربياً وعالمياً، لادعائهم دعم حقوق أصيلة بالتحرر، وحالياً لم ينتقد الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، مجزرة القذافي، حفاظاً على المصالح النفطية مع ليبيا.

الموقف الأميركي من ليبيا لا داعي لإفراد مقال في الحديث عنه، ولعل أي مراقب يدرك أن هذا الموقف الأميركي “الرخو” سيكون مصدراً لتجنيد العديد من الشبان المحبطين في العالم العربي، إذا ما فشلت الثورات فيه.

جلست منذ أيام مع مجموعة من الشبان الليبيين في لندن، والذين خرجوا من بلدهم منذ فترة قريبة، فقال لي أحدهم: “الموقف الغربي مخز، وغدا عندما يصبح لنا دولة حقيقية يجب أن نعمل شيئا إزاء هذا الموقف المتخاذل”. السؤال: ماذا لو لم تصبح لدى هؤلاء الشبان “دولة حقيقية”، وهم يشعرون أن الغرب تواطأ في المجزرة ضدهم؟

الإشكالية الحقيقية تكمن في فوضى المفاهيم العربية. ومن الأساسي إدراك أن الثورات التي يشهدها العالم العربي هي ثورات محلية أساسية، وكما يشير محمد جابر الأنصاري، من يفشل في بناء دولة قطرية لن ينجح في بناء دولة قومية، وفي الوقت ذاته هي تعبير عن تحولات ديمغرافية بعلاقات عكسية ما بين ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وما بين معدلات العمر لدى الشبان العرب. في الستينيات كانت حركة الشباب المسؤولة عن ترسيخ الأنظمة الديمقراطية في الغرب ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن حركة الشباب ستغير شكل المنطقة العربية، ولن يفيد تكرار الحديث عن أن هؤلاء الشبان “يفتقرون إلى الخبرة السياسية”، خاصة وأن القذافي نفسه كان عمره 27 عاما حين حكم ليبيا. وحتى لا ننخدع بأن الحركات الشعبية في العالم العربي اليوم هي حركات مطلبية، فإن القمع السياسي هو أحد أهم محركات تلك الحركات، وللأسف فهو عامل لا يذكر على أهميته.

ديكتاتورية القذافي أخرجت الناس إلى الشوارع، وغياب قنوات التواصل السياسي، طالما كانت سبباً في الاحتقانات وتزايد التوتر والعنف، ولكن ردة فعل النظام الليبي تسجل سلوكاً سياسياً عنيفاً أقرب إلى الإبادة السياسية (Political Genocide)، ولكن بمفهوم أوسع عما درج عليه بوصفه استهدافاً للسياسيين المعارضين، لأن القذافي، الديكتاتور مرة أخرى كي لا نخلط المفاهيم، يستهدف أي معارض لنظامه سياسياً كان أم لم يكن.

المصدر: الغد

Exit mobile version