في مفهوم الحكم الرشيد

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي برز الحديث، في الجدل السياسي المعاصر، عن التحول الديموقراطي، وحقوق الانسان، ودور المنظمات غير الحكومية NGOs، وأيضاً عن مفهوم الحكم الرشيد Governance الذي يعد من أحدث المفاهيم التي باتت تعبيراً عن “ما بعد الحداثة” في الفكر السياسي، والتي ترافقت مع أفكار “الموجة الثالثة” لـ”صامويل هنتغتون”، ونهاية التاريخ لـ”فرانسيس فوكوياما”، والتصورات الأميركية لدول العالم الثالث كأطر لمشاريع الإصلاح، والشرق الأوسط الكبير.


     الأساس الذي يقوم عليه مفهوم الحكم الرشيد هو عملية نزع “القداسة” عن السلطة ونقلها للمجتمع والافراد، وهو مفهوم حديث النشأة، برز منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وهو يعكس اساسيات الإصلاح والكفاية الإدارية في قيادة الدولة للمجتمع بسيادة القانون، ويسعى المجتمع من خلاله، في المقابل، الى مزيد من المشاركة وتفعيل نفسه مدنياً.


      وما زال المفهوم غير متفق على تعريفه، وهو مبرر استخدامنا للفظ الأجنبي في العنوان، ويواجه مشكلة في ترجمته، فيترجم أحياناً الى “الحاكمية”، كما تفعل الأمم المتحدة في وثائقها، إلا أن مفهوم الحاكمية ارتبط بمفهوم “الحاكمية لله” والذي نظر له “سيد قطب”، وعليه فهو محمل بصبغة ايديولوجية ولا يعبر عن مفهوم governance ويترجم أيضاً الى مفهوم “الحكم” “الذي ينطوي على قدر عال من التجريد الذي قد لا يصلح ترجمة للمفهوم”، وفقاً لـ”سلوى شعراوي جمعه”. ولذا قد يكون تعبير “الحكم الرشيد” الأنسب لترجمة المفهوم.


وباعتبار هذا المفهوم حديث النشأة وأحد إفرازات العولمة بحيث يفترض أن الدولة لم تعد الفاعل الرئيسي في العملية السياسية، فإنه يدلل على تحفيز الدولة للمجتمع المدني، بشكل يدعو الى العودة الى “ضوابط مجتمعية أخلاقية” لطرفي الوجود السياسي “الحاكم والمحكوم”، بشكل يزيد من فاعلية المجتمع المدني وتأثيرها في السياسات العامة للدولة.


        وبذات الوقت فإن المفهوم يفترض أن السلطة لم تعد تتفاعل مع أفراد محكومين فحسب بل شبكة مدنية ممثلة بقطاعات حداثية مثل الأحزاب، ومنظمات غير حكومية، ونقابات وغيرها. الأمر الذي يستدعي تأسيس ثقافة مدنية حقيقية لدى أفراد المجتمع، والاهتمام بالتنشئة السياسية في هذا السياق.


      والمفهوم بذات الوقت يعبر أيضاً عن تغير العلاقة بين السلطة والقطاع الخاص بالتأثير المتبادل باعتماد المهارة والكفاءة الإدارية معايير أساسية تحكم إدارة القطاع العام، وتوجيه هذا القطاع نحو مشاريع ربحية تعبر عنها الخصخصة، فيكون القطاع الخاص جزءاً من إدارة الدولة. 


       ومما سبق وبحكم أن مفهوم الــ Governance يشير الى تفعيل المجتمع المدني وتكافله لصالح الحكم الرشيد والعقلاني، وترشيداً للظاهرة السياسية، أي علاقة الحاكم بالمحكوم، فإنه مفهوم يشير الى مثال يحتذى، ويصبو المجتمع اليه كميكانيكية لحركة تلك العلاقة (الحاكم والمحكوم)، وتضبطها.


       وعلى ذلك فإن إسقاطه كمفهوم وعملية مجردين، أو كوصفة علاجية لأزمات غياب الديموقراطية، والترهل الإداري، والفساد، قد لا يؤدي الدور المرتجى منه إن لم تقس، وبدقة “سوسيومترية” (القياس الاجتماعي)، ثلاثة اعتبارات أساسية بغية تبيئة (أي خلق البيئة الموائمة) هذا المفهوم: أولها حداثية المجتمعات وأستناد علاقاتها، وتعبير تكويناتها عن ذاتها ومصالحها بمعايير مهارية، وانجازية عوضاً عن المعايير الأولية مثل: الطائفة، أو العرق، أو القبيلة…الخ.

 وثاني الاعتبارات هو قياس حاجة القطاع العام الحقيقية لمزجه بآليات القطاع الخاص كي لا تحال إلى مجرد تحولات شكلية أو منبع للإثراء غير المشروع. وثالث الاعتبارت قياس رغبة السلطة الحقيقة بإشراك فواعل المجتمع الرئيسية في آليات الحكم، كي لا يكون إشراك المجتمع بالعملية السياسية مجرد شعار يستخدم للتزويق وتماشياً ومتطلبات العصر. فعدم القياس الحقيقي، وفق هذه الاعتبارات الثلاثة، للمجتمع والسلطة سيفضي إلى شكل مشوه وإن كان بثوب قشيب. 

المصدر: الغد

Exit mobile version