الشيشان: نماذج ممن وصلوا القومية بالإنسانية

يعد اقتراب تحليل الشخصية ودورها في الصراعات من أهم الاقترابات النظرية لفهم الصراعات، حيث يتم تناول القيادات ومتخذي القرار من طرفي الصراع لدراسة الظروف الاجتماعية والسياسية التي احاطت بهم وبنشئتهم، فيدرس على هذا الأساس القرار الذي يتخذه هذا الشخص القيادي أو ذاك، أو السلوك الذي ينتهجه، كما يدرس أيضاً الانطباعات المتبادلة فيما بين القيادات وتأثيرها في تصعيد الصراعات أو التخفيف من حدتها. وهو ما دأبت عليه دراسة الشخصية أو دورها في الصراعات، وهنا نتحدث عن الصراعات الأثنية وغير الأثنية. الا أن هناك جانبا مهما لم يزل يعاني من نقص مهم في تناوله وهو دراسة الشخصيات التي تضطلع بأدوار انسانية وتعد صلة الوصل ما بين التحرر الوطني أو القومي والهم الانساني العام، وهم ممن ينظرون إلى الحركة القومية باعتبارها دائرة من دوائر الانسانية المتعددة. ويكتسب هذا التناول أهميته عند الحديث عن الحالة الشيشانية، والصراع الأثني المسلح الدائر فيها، وحالة الإتهامات بالارهاب، والعنف، والتطرف.


هذا المقال يسلط الضوء على مجموعة من الشيشانيين الذين انخرطوا بالعمل الانساني في الشيشان وبقوا منحازين لفكرة ان الحرب كارثة انسانية قبل أي شيء آخر، وإن كانت دوافعهم حماية شعبهم الشيشاني بالمقام الأول، وتم مكافأتهم من خلال منظمات دولية كاعتراف بأدوارهم الإنسانية.


الطبيب حسن باييف: طبيب جراح شيشاني عينته منظمة Human Rights Watch عام 2000، بالاضافة إلى حملة مكافحة “القتل باسم الشرف في الأردن” واثنين اخرين بصفة “مراقبي حقوق الإنسان في العالم”، باعتباره، ومن معه، دافعوا عن العدالة في بلدانهم. وهو الذي منحته الولايات المتحدة حق اللجوء السياسي منذ عام 2000، كما أنه بطل الجودو في الاتحاد السوفيتي السابق، وهو الطبيب الذي التزم بقسمه الانساني (وهو عنوان كتابه الصادر حديثاً في الولايات المتحدة يروي فيه تجربته خلال الحربين الشيشانية-الروسية).


أجرى “باييف” العديد من العمليات الجراحية خلال الحربين الشيشانية-الروسية لأهله من المدنيين والأطفال والشيوخ والنساء، وعالج القادة الميدانيين الشيشانيين مثل: “عربي بارييف”، و”سلمان راديوف”، ومن ثم القائد المعروف “شامل باسيف”، وفي ذات الوقت عالج الجنود الروس وأجرى العمليات الجراحية لهم أيضاً. بل وأنقذ العديد منهم من الأسر، إلا أن القوات الروسية وصفته بـ”طبيب الإرهابيين” ولاحقته، وكذلك الحال مع بعض المتشددين من المقاتلين الشيشان فقد اتهموه بالخيانة لأنه عالج الجنود الأعداء. ويروي “حسن باييف” في كتابه أنه باليوم الذي بتر فيه قدم “شامل باسييف” على إثر انسحاب المقاتلين الشيشان من “غروزني”، أنه قد قام بإجراء 67 عملية بتر و7 عمليات تجميل للأدمغة، وذلك  في مشفاه الصغير في قرية “الخان يورت” والذي أسسه بمعونة الأهالي، وقد تعرض مراراً للقصف الروسي، ومضايقات بعض المتطرفين الشيشانيين. ومن جراء هذه الملاحقات هرب الطبيب “باييف” إلى انغوشيتا، ومنه ساعدته بعض منظمات حقوق الأنسان للوصول إلى الولايات المتحدة ومنح حق اللجوء السياسي، وهو مازال يحلم بالعودة إلى بلاده كما يذكر في كتابه.


زينب غاشاييفا: شيشانية، أبواها قضيا خلال عمليات الإبادة الجماعية والترحيل القسري للشيشانيين على يد “ستالين” سنة 1944، منحت جائزة “الحرية وحقوق الإنسان” السويسرية لعام 2002 تقديراً لجهودها في توثيق معاناة الشعب الشيشاني، من خلال رصد وتوثيق الانتهاكات التي ترتكبها القوات الروسية في الشيشان حيث استطاعت “غاشاييفا” نقل صور وأفلام ومواد خبرية، نجحت في تهريبها وتخزينها في ظروف قاهرة، حول ما يدور في الشيشان من فظائع، منذ اندلاع الحرب الشيشانية الثانية، والتي لم يكن الرأي العام العالمي يعلم منها إلا النادر، بسبب التعتيم الرسمي الروسي. وقد ساهمت من خلال ذلك بتعريف الرأي العام العالمي بجزء من مأساة شعبها.


جائزة “الحرية وحقوق الإنسان” السويسرية تمنح مرة كل سنتين، وقد منحت للمرة الأولى في عام 1973، وتبلغ قيمتها عشرة آلاف فرنك سويسري، ومن بين أشهر من حصل عليها السوفياتي “كرونيد ليوبارسكي” في العام 1975، والناشطة الحقوقية البوسنية “فاضلة ميمسيفيتش” في العام 1996.


الصحفي موسى مرادوف: صحفي شيشاني، رئيس تحرير صحيفة “غروزنسكي رابوتشي” الصحيفة الشيشانية المستقلة التي تعرضت مرارا للمضايقات والتهديدات من قبل السلطات الروسية، لرفض “مرادوف” أن تكون صحيفته أداة بيد الجهاز الإعلامي الروسي والذي ارتبط بالمؤسسة العسكرية منذ اندلاع الحرب الشيشانية-الروسية الثانية عام 1999، وقد قصف مكتبه عدة مرات، وقتل أكثر من صحفي ممن كانوا يعملون في صحيفته، وأضطر عام 1999 البقاء أربعة عشرة يوماً في تسوية مبنى صحيفته 1999 من جراء القصف المكثف، كما أنه تعرض لمضايقات من قبل بعض المتطرفين الشيشانيين الذين ارادوا تحويل صحيفته وفقا لتوجهاتهم.


مرادوف الآن يصدر صحيفته من موسكو وتوزع في الشيشان، رغم المضايقات المتكررة له، من قبل الحكومة الروسية. وقد منح بتاريخ الخامس والعشرين من أيلول من العام الماضي جائزة “لجنة حماية الصحفيين” مع أربعة صحفيين آخرين من افغانستان وكوبا والمغرب.


عبد الله خمزاييف:  محامي شيشاني، 67 عام، يعيش في موسكو منذ 40 عام، وقد ترافع عن أهالي الضحية الشيشانية ” خيدا كوينغيفا” 18 عام، فيما يعرف بقضية الضابط الروسي “يوري بودانوف” العقيد الروسي الذي اغتصبها وقتلها وقد حكمته المحكمة بعشرة سنوات، وقد اصيب المحامي الشيشاني بسكتة قلبية عندما حكمت المحكمة الابتدائية الروسية عليه بالبراءة، عقب تسييس المحكمة حيث اعتبرت ان “بودانوف” لم يكن في وعيه، عند ارتكابه الجرم، إلا أن ضغوط منظمات حقوق الأنسان دفعت المحكمة العليا إلى نقض الحكم السابق وإصدار حكم بعشرة سنوات على الكولونيل الروسي.


مات خمزاييف منتصف هذا العام، وقد أعلن، قبل وفاته، عن فوزه بجائزة مبادرة “يالطا للسلام في الشيشان” YIPCH لعام 2004، لجهوده في هذه القضية ومحاولته انصاف اهالي الضحية، وهي جائزة أقرت منتصف عام  2003 تمنح سنوياً لمن يتميزون بأدوار أنسانية لجلب السلام في الشيشان، من قبل متبني المبادرة وهم تحالف عدد من مجموعات حقوق الأنسان في العالم.


ليدا يوسبوفا: شيشانية عملت كمنسقة مكتب غروزني لمنظمة “ميموريال” المتواجدة في موسكو (وهي من المنظمات القليلة التي مازالت تنشط في الشيشان في مجال رصد انتهاكات حقوق الانسان وتوفير المعلومات بشأن تلك الانتهاكات)، منحت جائزة “مارتن اينال” (1927-1990- أول أمين عام لمنظمة العفو الدولية “الامنستي”) للمدافعين عن حقوق الانسان، وهي جائزة تمنح سنوياً من تحالف عشرة منظمات غير حكومية في مجال حقوق الإنسان وهي: منظمة العفو الدولية، والمنظمة الدولية لمكافحة التعذيب، راصد حقوق الأنسان Human Rights Watch، والمنبه الدولي International Alert، ومكتب الخدمات الدولية لحقوق الإنسان، الهيئة العالمية للمحلفين، ومنظمة الدفاع عن الأطفال، ومنظمة جيرمان ديكولتتز، ومنظمة هوريدوكس.


وتمنح الجائزة منذ 1994 وقد كان ممن فاز بها من المنطقة العربية الطبيب الفلسطيني “إياد سراج” عام 1998، وقد منحت “ليدا يوسبوفا” الجائزة لهذا العام لدورها الشجاع (حيث وصفت من قبل منظمات حقوق الانسان بأنها واحدة من اشجع نساء أوروبا) في جمع شهادات ضحايا انتهاكات حقوق الانسان حيث كانت تذهب بنفسها إلى اماكن القتل والاختطاف لتقدم معلومات وافية بهدف تقديم المجرمين للقضاء.


تيمور علييف: صحفي شيشاني، منسق تقارير القوقاز في معهد الحرب والسلام WPIR ، وكاتب غير متفرغ مع مجلة “موسكو تايمز”، و”موسكوفسكي كومسوليت”، منح جائزة “نادي ما وراء البحار للصحافة” في نيويورك عن مجموعة مقالات وثقت المأساة الشيشانية وصدرت ككتاب باسم  “الشيشان المعاصرة”. علييف ما زال ناشطاً في عمله الصحفي وهو وفر قدرا ممتازا من المعلومات والتحليلات عن الأوضاع المعاصرة في الشيشان من خلال كتاباته المتنوعة باللغتين الأنجليزية والروسية.


ان الناظر في الصراعات وتأثيراتها الانسانية ليجد أن لأمثال هؤلاء الأفراد أدوارا مهمة في التخفيف من حدة الجرائم المرتكبة أو بكشفها وفضحها، إلا أن الملاحظ أن دراسة وزنهم النسبي وتأثيرهم في الصراع ما زال قليلاً، الأمر الذي يوجب تفعيله في مجال الدراسات الانسانية والاجتماعية. وفي حالة الشيشان، تحديداً، من الممكن أن تجد العديد من أمثال هؤلاء ولكن لم يكرموا من المنظمات الدولية ولذا لم يسمع عنهم، الا أن ما يعنينا في هذا السياق أنهم وصلوا الانتماء القومي بالانتماء للانسان، وهو ما يؤكد انسانية حق الشعوب في تقرير المصير.  

المصدر: الغد

Exit mobile version