أصبح اهتمام الشارع الروسي منصبا على التغيير السياسي في البلاد، ولكن قد تعود أزمة شمال القوقاز إلى التصدر مرة أخرى بعودة بوتين إلى سدة الرئاسة، لأن نجاحه العسكري في الشيشان، ساهم في نجاحه السياسي سابقا، بوصفه “رجل روسيا الوطني القوي”.
أعلنت موسكو منتصف شهر مارس/آذار الماضي إرسال الآلاف من قواتها المتمركزة في قاعدة خانكالا في الشيشان إلى داغستان المجاورة في خطوة تعكس سياقات تطور الأوضاع في جمهورية داغستان وتزايد العنف فيها بمعدلات عالية تُسجَّل بشكل يومي. ويأتي هذا التطور أيضًا في ظل تحولات عدة على مستوى خطاب وسلوك “إمارة القوقاز الإسلامية” التي تُعد مظلة للمجموعات المسلحة في شمال القوقاز. ولكن الأهم، تأتي هذه الخطوة في ظل تحولات السياسة الروسية بعد إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسًا لروسيا في مارس/آذار الماضي 2012.
بوتين وحركات المعارضة الجديدة
شهدت شوارع موسكو وبعض المدن الرئيسية في روسيا تزايدًا للتظاهرات والاحتجاجات المعارضة لترشح فلاديمير بوتين لرئاسة روسيا بداية عام 2012. وفيما عُدَّت هذه الاحتجاجات ظاهرة غير مسبوقة ضد رجل الـ “كي بي جي” (1) والـ “إف إس بي” (2) السابق ، فإن هذه التظاهرات استمرت حتى بعد انتخابه رئيسًا لفترة جديدة، بعد انقطاعه عن هذه المنصب منذ نهايات 2007، وتولي ديميتري ميدفيديف رئاسة الجمهورية، وبقاء بوتين في المشهد السياسي رئيسًا للوزراء.
يُعزَى نجاح بوتين كرجل روسيا القوي منذ عام 1999 إلى ثلاثة أسباب أساسية: أولها: “انتقامه” للنزعة القومية للجيش الروسي إثر هزيمته في الشيشان(3) في حرب 1994-1997، وثانيًا: تزايد أسعار النفط، وثالثًا: وعده ببناء دولة روسية قوية. العوامل الثلاثة لعبت دورًا أساسيًا في استقطاب تأييد الطبقة الروسية الصاعدة، والتي باتت أكبر وأقوى في عقد الألفية الأول مشكِّلة نحو 25 بالمائة من سكان روسيا، ونحو 40 بالمائة من القوى العاملة في البلاد. ولكن مع نهايات العقد ومع تزايد قوة هذه الطبقة فإن تطلعاتها السياسية تغيرت أيضًا (4). وهذه التطلعات تمثلت برغبة في إنهاء الحكم الفردي في روسيا، والتحول إلى المؤسسية السياسية، حتى إن بعض التيارات داخل الطبقة الوسطى تركز على ضرورة وجود علاقات أفضل مع الغرب.
وفي إطار هذه التطلعات السياسية الجديدة، بدأت الأصوات المعارضة لبوتين ترتفع أكثر فأكثر، ولكن هذه الأصوات، والاحتجاجات عبّرت عن حركات شعبية أكثر من كونها منظمة من قبل القوى السياسية التي أضعفها بوتين ابتداءً. ومثّلت هذه الاحتجاجات حالة شبيهة فيما يُعرَف بحركات “الربيع العربي”، التي نشطت على شكل حركات شعبية لا ترتبط بالبِنى الحزبية القائمة، ومرَدّ ذلك إلى سياسات بوتين تجاه القوى السياسية التقليدية في البلاد؛ فقد عمدت سياسة بوتين خلال حكمه الأول (1999-2007) إلى تحجيم القوى السياسية المعارضة في بناها الحزبية، وبالتالي باتت السيطرة للأحزاب المؤيدة لبوتين، بينما أحزاب المعارضة التقليدية حُجِّمت، وخاصة التيار الليبرالي. ومن الجدير بالذكر أن إدارة بوتين للدولة الروسية اعتمدت على هيمنة الأجهزة الأمنية على السياسة الداخلية، وبرزت قوة رئيسية في المشهد السياسي.
ولكن في السياق الإقليمي، يبدو أن محورية شمال القوقاز تراجعت لدى الناخب الروسي عمومًا، في ظل الاهتمام بالتغيير السياسي، والحراك المجتمعي الذي تشهده روسيا. كم أن تزايد التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومات الموالية لروسيا في الجمهوريات شمال القوقاز، ومع تزايد العنف بمعدلات يومية فيها، أثار تساؤلات حول مدى جدوى تطبيق سياسة بوتين الأمنية تجاه الإقليم.
حيث إن الشيشان التي شهدت حربين كبيرتين في عامي 1994 و1999(5) متسببة بكلفة إنسانية عالية، ومع تنصيب حكومة موالية لروسيا بقيادة رمضان قاديروف، باتت هادئة نسبيًا، مشكِّلة نقطة تحول للمعطيات الميدانية في الإقليم، مع انتقال المقاتلين منها إلى الجمهوريات المجاورة التي كانت تشهد بروزًا لمجموعات مسلحة في الوقت ذاته، فظهرت داغستان، وأنغوشيا، وقبردين-بلقار كبؤر للعنف في إقليم القوقاز الشمالي، على الترتيب من حيث شدة العنف، وبمعدل هجمات تجاوز الـ 300 حالة عنف سنويًا، في بعض السنوات منذ عام 2007، أي عام الإعلان عن تأسيس “إمارة القوقاز الإسلامية”، التي تُعد المظلة الأساسية التي تنشط تحتها المجموعات المسلحة في شمال القوقاز.
المدنيون في روسيا
في إطار السعي للاستفادة من التطورات السياسية في موسكو، وتزايد المعارضة الشعبية لبوتين، أطلق زعيم “إمارة القوقاز الإسلامية” الشيشاني “دوكو عمروف”، مطلع شهر فبراير/شباط 2012، في تسجيل مرئي، دعوة إلى مقاتلي “الإمارة” بعدم استهداف المدنيين الروس، باعتبار أن “تكييفهم القانوني والشرعي تغير” (6). وبالمقابل دعا عمروف إلى استهداف القوات العسكرية الروسية، والأجهزة الأمنية الروسية، والقوات الحكومية المحلية في جمهوريات شمال القوقاز.
عبّرت هذه التصريحات، أو “تغير وضع المدني في روسيا”، عن تحول في خطاب وسلوك “إمارة القوقاز الإسلامية” التي تبنت مسؤولية عمليات عدة سابقا في الداخل الروسي استهدفت مدنيين ولعل أشهرها تفجيرات مترو الأنفاق في مارس/آذار 2010 وتفجير مطار دموديديفو في يناير/كانون الثاني 2011 واللذين أوديا بما يزيد على الثلاثين شخصًا في كل منهما. ويُذكَر أن الإمارة تبنت هجمات عدة منذ عام 2007 ضد أهداف مدنية داخل روسيا.
ولكن في المقابل، هدف عمروف من تصريحاته تلك أيضًا، إلى إرضاء “الجناح الشيشاني” في “إمارة القوقاز الإسلامية”؛ “فالإمارة” مقسومة بين جناح شيشاني، يدعو إلى إعادة “شيشنة” الصراع، والاستفادة من الدعم الإنساني للقضية سواء في العالم الإسلامي أم في الغرب. ويفضل هذا الجناح استخدام تكتيك المواجهات المباشرة مع القوات الروسية، والقوات المحلية الشيشانية الموالية لروسيا.
وأما الجناح الآخر في “الإمارة” فيمثل الجماعات “الداغستانية”، و”الأنغوشية”، و”القبردين-بلقارية”، والذي يفضّل توسيع رقعة الحرب ضد روسيا لتشمل الإقليم ككل. ويُعد تكتيك “العمليات الانتحارية” هو المفضل لدى هذا التيار. ويُذكَر أن خلافًا حادًا نشب بين الجناحين في عام 2010 ولكن تم تداركه، وإن كان على ما يبدو بشكل هش.
منذ تصريحات عمروف حول المدنيين في روسيا، وفي تدليل على رغبته في إرضاء “الجناح الشيشاني”، تزايدت العمليات العسكرية ضد القوات الروسية، وباستخدام المواجهات المفتوحة على الحدود الشيشانية-الداغستانية. ومن الضروري الإشارة إلى أن عمروف يُبقي علاقته مع الجناحين في موقع الوسط؛ حيث إن الشيشانيين يشكّلون النسبة الأكبر عددًا في “الإمارة”، بينما “النزوع الجهادي” لدى الجناح الآخر مصدر مهم لتأمين التمويل من الخارج. وحتى العملية الانتحارية التي شهدتها داغستان مطلع شهر مايو/أيار 2012 استهدفت مقر شرطة مودية بحياة 13 شخصًا، ولكنها تبقى في سياق دعوة عمروف الجديدة.
فشل التعامل الأمني الروسي
على ما سبق فإن تحولات ثلاثة باتت تشكّل المشهد الروسي، والسياسة الشمال قوقازية في موسكو، أولاً: إعادة انتخاب بوتين، وثانيًا: تحول في خطاب المسلحين في الإقليم، وأخيرًا تغير التطلعات السياسية لدى “المعارضة الشعبية” في روسيا. هذه التحولات تأتي في سياق تزايد العنف في شمال القوقاز، وبالتالي يثار التساؤل عما إذا كان مجديًا لموسكو الاستمرار في سياساتها الشمال قوقازية.
كانت السياسة الروسية في شمال القوقاز التي بدأت مع اندلاع الحرب الروسية-الشيشانية الثانية عام 1999، وتبلورت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، قد قامت على مجموعة من الأسس أهمها استخدام شعار “مكافحة الإرهاب” كغطاء للحرب مما خلق صمتًا دوليًا ما بعد سبتمبر/أيلول 2001، وكذلك لجأ بوتين إلى منع التغطية الإعلامية للحرب في الشيشان؛ مما أفقد منظمات حقوق الإنسان تأثيرها. ولكن على المستوى السياسي عمد بوتين إلى: أولاً: الرفع من دور الأجهزة الأمنية في الحرب، مستفيدًا من خلفيته الاستخبارتية؛ ولذا فإن إدارة الحرب لم تكن بيد الجيش بل الاستخبارات، وثانيًا: ومنذ عام 2004، منع انتخاب رؤساء الحكومات المحلية في جمهوريات شمال القوقاز، وجعلهم بالتعيين، مما أفرز قيادات تنفذ سياساته وترتبط به مباشرة، ومعظمهم من خلفيات أمنية، ولكن المثال الأبرز، والأهم للسياسة الروسية، تمثل برمضان قاديروف في الشيشان.
الركون إلى العمل الاستخباري في الحرب، كان من مظاهره إستراتيجية قتل قيادات المسلحين الشيشان، وبالتالي تفكيك هياكله. وعمليات القتل بدأت بظروف مختلفة طالت معظم القيادات المدنية، ولكن هذه السياسة أفرزت أيضًا جيلاً جديدًا من المسلحين في شمال القوقاز، والذي باتوا ينشطون مع “الإمارة” وغير معروفين للأجهزة الأمنية الروسية، مما منح المسلحين في شمال القوقاز أفضلية في تنفيذ هجماتهم.
الأمر الآخر الذي ارتبط بسياسة بوتين، هو أن القيادات في شمال القوقاز ساهمت في إذكاء التوتر في المنطقة عبر تزايد نسب الفساد، والبطالة نتيجة السياسات الاقتصادية، والأهم انتهاكات حقوق الإنسان، والتي لعبت كلها دورًا أساسيًا في تغذية المجموعات المسلحة.
وعلى ذلك فإن حالة الاغتراب لدى الأجيال الجديدة في شمال القوقاز جعلها عرضة لتأثير الأيديولوجية الجهادية، خاصة مع إضعاف الحركات القومية في المنطقة جرّاء السياسات الروسية، حيث إن الجهاديين طالما سعوا إلى إيجاد موطئ قدم لهم في شمال القوقاز منذ تراجع دور المقاتلين العرب في الشيشان عام 2003، وقد نشط التيار منذ عام 2008، وفي سياق بحثه عن ملاذات آمنة، في ترجمة العديد من أدبيات التيار إلى اللغة الروسية، وأيضًا شهدت المنطقة إنتاجًا لجهاديين محليين(7).
ورغم هذا ما زالت المظالم المحلية المحفز الأساسي للمجموعات المسلحة في شمال القوقاز، ولم تشهد نزعات لتبني فكرة الجهاد العالمي، ولكن هذا لا يمكن فهمه كحقيقة قائمة، حيث إن الجهاديين ينظرون باهتمام بالغ للموقع الإستراتيجي لشمال القوقاز. وعمومًا، فإن المؤشرات السابقة، تظهر أن السياسة الروسية في شمال القوقاز، والتي كان مهندسها بوتين، لم تعد ناجعة، ما يدفع باتجاه البحث عن حلول أخرى وسياسات جديدة، ولعل أولها نشر قوات عسكرية في داغستان.
خلاصة
على ما سبق، يلاحَظ أن المؤثرات المحلية والإقليمية في شمال القوقاز المحيطة، تنذر باستمرار التوتر في شمال القوقاز، ولعل إعادة نشر القوات الروسية في جمهورية داغستان، يؤشر إلى أن روسيا قد تكون أمام خيار تنفيذ “عملية عسكرية محدودة”، والتي قد تمتد وتتوسع.
ولكن من المهم الإشارة إلى أن المنطقة ذاتها ما زالت تعاني من ذات الظروف المحفزة للعنف سواء بقي محصورًا في إطار الإقليم أم تجاوزه، وبالتالي فإن لجوء روسيا إلى تصعيد الخيار العسكري، ولو بشكل محدود، خاصة بعد أن أظهر أسلوب التعامل الأمني مؤشرات إخفاق، فإنه سيعيد إشعال منطقة شمال القوقاز كما في منتصف التسعينيات.
وحاليًا وبعد انتخاب فلاديمير بوتين رئيسًا لروسيا، متزامنًا مع بروز حركة شعبية معارضة له تستند إلى طبقة وسطى، بتطلعات سياسية متنوعة، فإن بوتين، ومن ضمن سياساته الجديدة لمواجهة هذه المعارضة، أعاد شمال القوقاز إلى واجهة الأحداث، باعتبار أن “نجاحه العسكري”، في الشيشان، لعب دورًا أساسيًا في تقديمه كـ “رجل روسيا الوطني القوي” سابقًا، وقد يدفعه ذلك النجاح نحو التصعيد رغبة في عادة إنتاج نجاحه ذاك، ولكن هذا الأمر، لا يعدو سوى أن يضيف محفزًا جديدًا من محفزات العنف في شمال القوقاز.
______________________________
مراد بطل الشيشاني – متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال القوقاز-لندن
المصادر
1- الاستخبارات السوفياتية.
2- دائرة الاستخبارات الرّوسية.
3- الحرب الشيشانية الأولى ما بين عامي 1994- 1996، وهي التي هزم فيها الجيش الروسي وأدت عمليا إلى استقلال الشيشان عن روسيا.
4- The Economist, Mar 3rd 2012
5- الحرب الشيشانية الثانية عام 1999، وهي الحرب التي دخلت بنتيجتها قوات الاتحاد الروسي إلى إقليم الشيشان وأخضعته.
6- أي عدم جواز قتل المدني في روسيا، بعد أن كانت تيارات داخل “الإمارة” تجيز ذلك، وبهذا فإن وضعية “المدني الروسي”، تغيرت من وجهة نظر “الإمارة”.
7- انظر للكاتب، تطورات القوقاز الشمالي والسلفيون-الجهاديون، مركز دراسات الجزيرة، 6 مارس/آذار 2011.