يناقش هذا التقرير رؤية التيار السلفي الجهادي لمنطقة شمال القوقاز ما بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن، والذي تزامن مع الحركات الشعبية في العالم العربي، وبالتالي قياس تأثيرات تلك الأيديولوجية في المجموعات المسلحة هناك، وفي السياسة الروسية تجاهها وتجاه المنطقة.
شكّل مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، في الثاني من مايو/أيار الماضي في باكستان، بشكل أو بآخر، نقطة تحول لدى المجموعات المسلحة وذلك باعتباره رمزًا أساسيًا لتلك الحركات التي توصف بـ “الجهادية”.
1- شمال القوقاز من منظور السلفية الجهادية
“ شكّل مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، في الثاني من مايو/أيار الماضي في باكستان، بشكل أو بآخر، نقطة تحول لدى المجموعات المسلحة وذلك باعتباره رمزًا أساسيًا لتلك الحركات التي توصف بـ “الجهادية”. “ |
تُعد منطقة شمال القوقاز والشيشان تحديدًا، من المناطق الأساسية “للجهاد” من منظور التيار السلفي الجهادي ومن منظور أسامة بن لادن نفسه؛ حيث وردت مرات عدة في خطاباته مؤكدًا على أهمية “الجهاد” فيها. وانطلاقًا من هذه الرؤية فقد شهدت المنطقة تواجدًا من قبل السلفيين الجهاديين منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وفي ظل وجود الحرب الشيشانية-الروسية آنذاك.
وفيما شهد هذا الوجود ما بعد عام 1997 تصاعدًا، فقد تراجع ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2004، ولأسباب مختلفة عدة (*).
أهمية شمال القوقاز لدى التيار السلفي الجهادي كانت حاضرة دومًا، إما لأسباب أيديولوجية دينية وإما لأسباب جيوبوليتيكية، كما برز في كتابات العديد من منظري التيار السلفي الجهادي أمثال أيمن الظواهري (راجع كتابه: فرسان تحت راية النبي) أو عمر عبد الحكيم امشهور بأبي مصعب السوري وغيرهما.
وبالتالي فإن هذه المنطقة لم تفقد أهميتها لدى التيار بل تبرز في كل تحول إستراتيجي لديه، ومؤخرًا برزت فيما يتعلق بإستراتيجية الملاذ الآمن، و”تحويل الجهاد إلى ظاهرة محلية” Localization Jihad، والتي تعبر عن تحولات تفرضها ظروف صراعها مع الولايات المتحدة والأنظمة التي تحاربها بمنطق التكيّف والاستمرار.
ويناقش هذا التقرير، الاستمرارية والتغير في رؤية التيار السلفي الجهادي لمنطقة شمال القوقاز ما بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن، والذي تزامن مع الحركات الشعبية في العالم العربي، وبالتالي قياس تأثيرات تلك الأيديولوجية في المجموعات المسلحة هناك، وفي السياسة الروسية تجاهها وتجاه المنطقة.
تقوم فكرة “تحويل الجهاد إلى ظاهرة محلية” على فكرة تبني المحليين في المناطق التي يتواجد بها السلفيون الجهاديون لأيديولوجيتهم، وليس فقط مجرد تأسيس علاقة “تحالف” مع المجتمعات الحاضنة لهم، وبالتالي تتيح لهم تأسيس ملاذات آمنة في تلك المناطق.
فالقاعدة والسلفيون الجهاديون فشلوا في العراق وفي الشيشان وقبلهما في السودان في تأسيس ملاذات آمنة، بسبب فقدانهم تأييد الحاضن المحلي، لأن علاقتهم مع المجتمعات “المستضيفة” بقيت علاقة تحالف، ولكن يبدو أن “المستضيفين” الآن في مناطق مختلفة بدأوا يتبنون الأيديولوجية السلفية الجهادية، وباتت هذه الإستراتيجية تسجل نجاحًا وتحديدًا في أفغانستان وباكستان.
مثلاً، حركة “طالبان باكستان” بدأت تتبنى أيديولوجية الجهاد العالمي، وهذا كان متوازيًا مع تقارير كانت تشير إلى بروز نوع من الاستقطاب بين أوساط “البنجابين” للحركة الجهادية، وهم أهل الإقليم الذي كان دومًا يحسب على الطبقة الحاكمة وكبار العسكريين، وكذلك الحال ينطبق على الجماعات الكشميرية مثل “لشكر طيبة” والتي عبَّر عن تحولها هذا، هجمات مومباي في نوفمبر/تشرين الثاني 2008.
وكان من مظاهر تحويل الجهاد إلى حركة محلية بدء المنتديات الجهادية بنشر العديد من موادها المكتوبة والسمعية والمرئية ليس بالعربية أو الإنجليزية فقط، بل باللغة الأردية اللغة القومية إن جاز التعبير لدى الباكستانيين، وكذلك الكردية والتركية وبعض اللهجات الصومالية والروسية أيضًا، ومن هنا برز الدور والمعادلة المتصلة به التي تقول: إن شمال القوقاز في القلب من هذه الرؤية.
في سياق فكرة “تحويل الجهاد إلى ظاهرة محلية”، لوحظ أن العديد من المنتديات الجهادية باتت تفرد مساحات أوسع لأخبار شمال القوقاز وقيادات المجموعات المسلحة، حتى إن مواقع جهادية، ولعل أشهرها موقع المنظِّر الأيديولوجي للسلفيين الجهاديين أبي محمد المقدسي: “منبر الجهاد والتوحيد”، أفردت صفحات لترجمة المقالات والأدبيات الجهادية للغة الروسية.
كما أن المنتديات الجهادية باتت تخصص منتديات فرعية خاصة بشمال القوقاز، وهذا الزخم بدأ يتزايد منذ بدء القاعدة والتيار السلفي الجهادي تبني الإستراتيجية الجديدة المرتبطة بـ “محلنة الجهاد” إذا جاز التعبير، وخلق ملاذات آمنة في نهايات عام 2008.
وعلى مستوى آخر برز نوع من الارتباط لدى التيار الجهادي داخل “إمارة القوقاز الإسلامية” بالحركة السلفية الجهادية على مستوى الفتوى، كفتاوى أبي محمد المقدسي، وأبي بصير الطرطوسي.
ولصعوبة التنقل وانتقال المتطوعين إلى الشيشان بحكم الطوق الأمني الذي فرضته روسيا منذ اندلاع الحرب الشيشانية الروسية الثانية، فإن عددا قليلا من المتطوعين أُشير إلى أنهم دخلوا الشيشان بعد 2005، ولكن بالمقابل عزز هذا من فكرة أو إستراتيجية “محلنة الجهاد”.
وبالتالي وبناء على ذلك، فإن التيار الجهادي في شمال القوقاز بات قادرًا على إنتاج جهادييه المحليين كما تبدَّى في منفذي العمليات الانتحارية، أو زعماء وقيادات من مناطق مختلفة من شمال القوقاز، ولم يعد هؤلاء محصورين بالشيشان كما كان خلال الحربين الشيشانيتين. ولعل أشهرهم المنظر الأيديولوجي وزعيم فرع إمارة القوقاز الإسلامية في جمهورية قبردين-بلقار، أنزور أستيمروف الذي عمل -قبل مقتله على يد القوات الروسية العام الماضي- على نسج علاقات بمنظري التيار السلفي الجهادي العالمي وتحديدًا مع أبي محمد المقدسي، الذي بدوره راجع كتابات أستميروف وزكَّاها.
وكذلك الحال مع المنظر سعيد بوراتسكي وعدد من منفذي العمليات الانتحارية من النساء والشباب؛ حيث كانوا مدفوعين بالاعتناق الأيديولوجي، وذلك أكثر من تداعيات الوضع الانساني كما كان الحال مع الانتحاريات الشيشانيات ما بين عامي 2001 و2006.
الثورات العربية، ومقتل بن لادن
“ برز نوع من الارتباط لدى التيار الجهادي داخل “إمارة القوقاز الإسلامية” بالحركة السلفية الجهادية على مستوى الفتوى، كفتاوى أبي محمد المقدسي، وأبي بصير الطرطوسي. “ |
برز في سياق الرؤية الإستراتيجية السلفية الجهادية لشمال القوقاز تحولان جديدان شكّلا تحديا للتيار السلفي الجهادي -الذي يُعتقد أن له تأثيرا مباشرا في مستقبل المنطقة وفي السلوك السياسي العنفي لـ “إمارة القوقاز الإسلامية”- تمثل أحدهما باندلاع الحركات الشعبية العربية إضافة إلى آخر، وهو مقتل أسامة بن لادن.
وجد تنظيم القاعدة والتيار السلفي الجهادي نفسه خارج المشهد السياسي العربي الذي شكّلته الحركات الشعبية، ولذا كأسلوب للتعامل مع هذا التحول بدأ التيار إستراتيجية مزدوجة للتعامل مع الوضع الجديد: عبر تقديم خطاب “سياسي” و”معتدل” للجماهير العربية من ناحية، ومن ناحية أخرى تكثيف نشاطاته في “أطراف” العالم الإسلامي، كمناطق باكستان-أفغانستان، وآسيا الوسطى وشمال القوقاز بطبيعة الحال.
أما فيما يتعلق بتقديم الخطاب المعتدل فيلاحظ على سبيل المثال أن الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري، ركز في رسالته الثانية عن الأوضاع في مصر والتي نشرتها مواقع جهادية عدة: على التحذير من التوسع في “التترس” (**) على الرغم من أن هذا المفهوم أي “التترس” كان أساسيًا في العديد من عمليات القاعدة، وعلى رأسها هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001.
كما برزت محاولات استقطاب للجماهير أيضًا في مواضع عدة، منها ما جاء في كتيب “المنظر الجهادي عطية الله أبي عبد الرحمن (جمال أشتيوي المصراتي)، بعنوان “ثورة الشعوب، وسقوط النظام العربي الفاسد: كسر صنم الاستقرار والانطلاقة الجديدة”، والذي نشرته مواقع جهادية أيضًا، وركز فيه على دعوة أنصار الجهاديين إلى التعامل باللطف مع الجماهير بعد نجاح الثورة، وتفادي المواجهات الفكرية والتركيز على حسن التعامل معهم.
أما المستوى الآخر لهذه الإستراتيجية فيرتبط بتكثيف نشاطات التيار السلفي الجهادي في “أطراف العالم الإسلامي” كما يصفه التيار السلفي الجهادي الذي يعتبر العالم العربي “قلب العالم الإسلامي”، ومن المناطق المفترضة شمال القوقاز؛ ففي عام 2001 وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول نُشِر كتاب أيمن الظواهري (فرسان تحت راية النبي) الذي قال فيه عن منطقة شمال القوقاز: إنها “نقطة انطلاق إلى العالم الإسلامي”، مضيفًا أن “نجاح تجربة الشيشان في (تحرير القوقاز) ستشكل بؤرة جهادية تؤوي آلاف المجاهدين من أركان العالم الإسلامي، بشكل يوصلهم إلى بحر قزوين الغني بالبترول، وبشكل يجعل بينهم وبين أفغانستان جمهورية تركمانستان المحايدة فقط، فيتشكل الحزام الإسلامي المجاهد في جنوب روسيا فيتصل شرقًا مع باكستان، وشبابها المجاهدين في كشمير، وجنوبًا وغربًا مع إيران وتركيا، المتعاطفتين مع مسلمي آسيا الوسطى”.
وعلى ذلك فإن مقتل أسامة بن لادن لن يؤثر في هذه الرؤى الإستراتيجية للتيار السلفي الجهادي، وبالتالي فإن الضخ الأيديولوجي الموجه لشمال القوقاز يُتوقع أن يتزايد، وهو ما برز على المنتديات الجهادية بالفعل. ولكن التساؤل الرئيسي يبقى عن مدى استعداد “إمارة القوقاز الإسلامية” لتلقي هذا الضخ الأيديولوجي المتوقع من قبل التيار السلفي الجهادي؟
تنضوي تحت راية “إمارة القوقاز الإسلامية”، فصائل ومجموعات مسلحة مختلفة من جمهوريات شمال القوقاز، والتي كانت قد برزت بعد الإعلان عن تراجع العنف في الشيشان؛ حيث شهدت تلك الجمهوريات تصاعدًا في الجماعات المسلحة والحوادث العنيفة على النقيض من الشيشان، التي أصبحت فيها العمليات محصورة بحرب العصابات بشكل محدود بسبب انتقال المقاتلين إلى الجبال وإلى دول الجوار، بعد أن شهدت حربين ضاريتين ما بين 1994-1997، و1999-2006. وما زالت -بطبيعة الحال- أحداث العنف تبرز بين الفينة والأخرى هناك، وعلى الرغم من وجود فصيل قومي شيشاني انتحى بعيدًا عن “الإمارة” فإن الأخيرة باتت تعبيرًا عن تحول الحركة من حركة شيشانية إلى شمال قوقازية إقليمية.
وفي هذا السياق تبرز كل من أنغوشيتيا وداغستان كبقعتي تهديد عبر عدد متزايد من الهجمات خاصة الانتحارية منها، وقد شكلت كلتا الجمهوريتين مصدر الهجمات التي تقوم بها “إمارة القوقاز الإسلامية” حتى بدايات عام 2011 الذي ما إن بدأ حتى كانت جمهورية “قبردين-بلقار” تنضم إليهما، بل وباتت توصف بأنها من أخطر الأماكن في شمال القوقاز.
على سبيل المثال ارتفعت الهجمات حتى فبراير العام الحالي في قبردين-بلقار من أربعة إلى خمسة أضعاف عما كانت عليه من قبل، فمن 21 عملية في العام 2009 إلى 117 في الشهور العشرة الأولى من 2010 إضافة إلى هجمات عدة مع مطلع العام، ومنذ ذلك الحين لم تخِفّ وتيرة تلك الهجمات ولم تشهد تبدلاً ملحوظًا مع مقتل أسامة بن لادن.
“ تنضوي تحت راية “إمارة القوقاز الإسلامية”، فصائل ومجموعات مسلحة مختلفة من جمهوريات شمال القوقاز، والتي كانت قد برزت بعد الإعلان عن تراجع العنف في الشيشان. “ |
ولكن بالمقابل فإن الظروف الموضوعية على الأرض في منطقة شمال القوقاز توفر بيئة خصبة لتلقي الضخ الأيديولوجي الجهادي، ولجعل فكرة “التحول المحلي للجهاد” قابلة لتحقق؛ فعلى سبيل المثال فإن معظم المنضوين في الحركة المسلحة في قبريدين-بلقار، وداغستان وأنغوشيتيا هم من الشبان الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عاما، ويبدو أن تبنيهم للطابع الإسلامي يعبر عن ضعف أو إضعاف للحركة القومية في الجمهوريات الشركسية في شمال القوقاز (بالإضافة إلى قبريدن-بلقار، هناك قراتشاي-تشيركيسك، إديغيه، وبدرجة أقل أبخازيا)، وينطبق الحال على داغستان وأنغوشيتيا، بينما ما زالت الحركة القومية في الشيشان تكتسب زخمها كما بدا في الانشقاق الذي قاده التيار القومي في أغسطس/آب عام 2010 داخل “إمارة القوقاز الإسلامية”.
الأمر الآخر أن المظالم المحلية وحالة الإحباط من الفقر، والبطالة والفساد تلعب دورًا أساسيًا في كسب مجندين جدد للجماعات المحلية المشكلة لـ “إمارة القوقاز الإسلامية”، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أغلب الجماعات المحلية يرتبط سلوكها معظم الأحيان بطبيعة الظروف الميدانية المحلية وأحيانًا بالأهداف نفسها، لكنها تتلاقى تحت مظلة “الإمارة”، ومن هنا فإن الأيديولوجية الإسلامية تبرز كقاسم مشترك يؤكد على جاذبية خطاب السلفيين-الجهاديين.
على سبيل المثال في استطلاع للرأي أُجري في جمهورية “قبرين-بلقار”، صوَّت نحو 39% من القبرداي إيجابيًا أو أقرب للإيجابية لـ “الوهابية”، ومن المعروف أن “الوهابية”، هي التسمية التي تطلق على الحركة السلفية في مناطق آسيا الوسطى والقوقاز. وبهذا المعنى فإن هذه الأفكار باتت تلقى قبولاً متزايدًا