يشير الكاتب الأمريكي “توماس فريدمان” في مقاله المنشور في “نيويورك تايمز” 20/2/2004 إلى أن الشرق الاوسط يشهد مخاضاً يطلق عليه مرحلة هدم “جدار برلين” كتشبيه بين هدم جدار برلين الذي كان يفصل بين الالمانيتين أبان الحرب الباردة والتي أشار إلى نهاية الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وبين التحولات في العالم العربي، حيث يورد “فريدمان” هذا التشبيه كتنبؤ لتحولات ستشهدها المنطقة العربية.
ففي مقالته المعنونة بـ”عندما يطير الجمل” يشير “فريدمان” الى عدة مؤشرات يعدها ايجابية في تحول المنطقة إلى الديمقراطية، وهي: “تحدي الملايين لتهديدات الجهاديين والبعثيين في العراق ومشاركتهم في الانتخابات”، و”إجراء الانتخابات الفلسطينية”، والمظاهرات الرافضة للتمديد للرئيس المصري حسني مبارك أو لتوريث نجله، ومظاهرات المعارضة اللبنانية لإخراج القوات السورية من لبنان، كذلك الانتخابات البلدية في السعودية. ويرى “فريدمان” أن مثل هذه التحولات السياسية والانفتاح يترتب عليها “سلبيات” مثل “المقاومة المسلحة العراقية والعمليات الانتحارية في السعودية”.
ويلاحظ أن “فريدمان” وفي تحليله المتفائل، ومعه الحق فيما أورد من مؤشرات، إلا أنه يتغاضى عن موضوعة اساسية فحواها أن السلبيات التي أوردها باتت جزءاً من الوجه الآخر للتفاعلات السياسية في العالم التي باتت تعبر عن ثنائية تقسم العالم الى حد يعيد الى الذهن توصيف الاكاديمي الأمريكي “بنيامين باربر” في كتابه “Mc World Vs. Jihad “عالم ماك في مواجهة الجهاد”، الصادر منتصف التسعينيات، حين رمز بالجهاد للقوى المناهضة للعولمة في جميع أنحاء العالم، بينما رمز بعالم ماك للقوى العولمية بكافة قطاعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الفنية.
فواقع العالم، والشرق الأوسط جزء رئيسي في سياساته ليس تفاؤلياً بالقدر الذي يطرحه “فريدمان”، فمن خلال النظر في واقع الشرق الأوسط، وكما ذكرنا، فإن المقاومة المسلحة في العراق، والعمليات الانتحارية في الخليج باتت جزءاً من المشهد العام الذي يؤشر إلى أن العالم سيصبح اكثر عنفاً وجنوناً.
ففي ورقة تفريغية لوقائع مؤتمر نشرته بعنوان “”الولايات المتحدة واوروبا والشرق الاوسط الكبير” مؤسسة راند الأميركية التي عقدت المؤتمر بالتعاون مع مركز جنيف لسياسات الأمن، وبمشاركة نخب اكاديمية من الطرفين الأوروبي والأمريكي، وضع المؤتمر خمسة تهديدات أساسية يواجهها التعاون الامريكي-الأوروبي في سبيل الشرق الأوسط الكبير، وهي: تصاعد المقاومة المسلحه العراقية، ومفاوضات السلام الفلسطينية-الاسرائيلية، والتهديد الجهادي، والأمن في السعودية ، وامتلاك إيران لأسلحة الدمار الشامل.
وهو ما يؤشر إلى أمرين أساسيين: الأول أن الولايات المتحدة تشعر بمأزق سياستها ولذا تسعى لاستقطاب الاتحاد الأوروبي كشريك في السياسة العالمية، وفيه ما يناقض الرؤية الاحادية للنظام العالمي الجديد والذي تبنته منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. والأمر الآخر أن الإشكاليات التي يواجهها العالم لا تنحصر بالشرق الأوسط وإن كانت ذات علاقة واضحة.
فالمقاومة المسلحة في العراق تتخذ منحى أكثر دموية وأكثر عبثية وما حوادث عاشوراء إلا دليل على ذلك، ومفاوضات السلام تترافق الآن بتزايد اليمين الاسرائيلي وارسال رسائل التهديد لقادة سياسيين إسرائيلين وكأن المجتمع الاسرائيلي يشهد منعطفاً انقسامياً بتصاعد تيار رافض للتسوية السلمية.
أما ايران والتسلح النووي يبدو أنه غدا خياراً استراتجياً أكثر بعد تزايد الضغط عليها وعلى حليفتها سورية إثر أغتيال الحريري. وبنفس السياق كوريا الشمالية أعلنت رفضها الضغوط الامريكية، وقالت أنها ماضية بالتسلح النووي لان سلاحها يحميها من عدائية الولايات المتحدة. ورغم الطبيعة الردعية للسلاح النووي إلا أن ضمان ذلك مع التحولات العالمية اصبح محدوداً خاصة وان الولايات المتحدة أثارت موضوع ضرب إيران في الأونة الاخيرة مراراً، والذي يعبر عن حماقة بذاتها إن أقدمت على مثل هذه الضربة وما زالت العراق تشتعل.
وأما على مستوى القضايا الناعمة، كما توصف رغم آثارها المدمرة، فقد دخلت اتفاقية “كيوتو” حيز التنفيذ منذ أقل من شهر، والولايات المتحدة ترفضها، ونسب الفقر في تزايد، والمجاعات، وكثير من ضحايا “تسونامي” ما زالوا بلا مأوئ، وما زالت الأخبار تتواتر عن سجناء، ومعتقلين في كافة أنحاء العالم باسم الحرب على الارهاب، وصراعات دموية تزداد ضراوة، وحقوق الانسان منتهكة فيها وتستخدم فيها وسائل أستخدمت من قبل ولكن ليس بهذا التواتر الذي يشهده العالم، مثل الإيذاءات الجنسية…فرغم وجود متفائلين بيننا إلا أن كل ما سبق مؤشرات سلبية لعالم يصبح أكثر عنفاً…أكثر جنوناً.
المصدر: الغد