رغم أن الحديث عن مفهوم المجتمع المدني عاد مجدداً، في الأوساط الاكاديمية والاعلامية، مع نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، إلى أن جذوره الفكرية تعود إلى حقب تطور الفكر السياسي الغربي، حيث أفرزت كل حقبة نمطاً تعريفيا للمفهوم. فقد برز المفهوم منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر في ظل التطور الصناعي الذي شهدته اوروبا، وقد برز في مواجهة السلطة المقدسة(الكنيسة)، المتحالفة مع الاقطاع، والذي تزامن مع نشوء طبقة جديدة تمثل مجموعة من المصالح الاقتصادية هي الطبقة البرجوازية.
وقد لعبت هذه الطبقة الدور السياسي بدلاً من الفئات المتحالفة مع الكنيسة، وقد أفرزت علاقات أفقية بدلاً من التراتبية الرأسية السائدة في العلاقات الاجتماعية آنذاك. ورغم أن تبلور المفهوم ووضوحه كان مع بداية ذلك العصر إلا أن الجذور الفكرية لمفهوم المجتمع المدني يجدها المراقب منذ افكار شيشرون، والرومان، وحتى عند ارسطو، وافلاطون.
في سياق تبرير او تفسير مصالح الطبقة البرجوازية الناشئة برز مفكرو “العقد الاجتماعي”: “توماس هوبز”، و”جون لوك”، و”جان جاك روسو”، ورغم اختلاف نتائج تنظيرهم للظاهرة والوجود السياسيين، فقد انطلق تنظيرهم من فكرة انفصال الفرد عن الدولة باعتبار حقوقه الطبيعية، والتي برزت مع التملك والملكية الخاصة. وذلك من خلال تحاكم الافراد إلى صيغة قانونية افتراضية لتأسيس السلطة بمعيار دنيوي بدلاً من المعيار الديني، عرفت بـ”العقد الاجتماعي”، وذلك لحماية الفرد وحقوقه الطبيعية. فأفضت النظرية إلى فصل الدولة عن الاقتصاد (مما يلبي حاجة البرجوازية الناشئة)، وإلى تحول الفرد إلى مواطن له حقوق وعليه واجبات في مقابل الحاكم (العقد الاجتماعي)، وبهذا المعنى غدا المجتمع المدني تعبيراً عن وعي الفرد بحقوقه في مواجهة السلطة.
ورغم ان منظري “العقد الاجتماعي” نظروا لإنفصال المجتمع المدني عن الدولة إلا أن الفيلسوف الالماني “هيجل” رأى بوجوب تماه المجتمع بالدولة، من خلال انكاره نظرية العقد الاجتماعي لعدم قدرة المجتمع المدني على تحقيق الفاعلية دون الدولة، والفاعلية تقوم بتقسيم العمل في المجتمع المدني وتوزيع الوظائف مع الدولة، وذلك انطلاقاً من قدرة الدولة (والدولة فقط) على حل تناقضات المجتمع المدني الداخلية. وقد استفاد “كارل ماركس” في تنظيره من فكرة “هيجل” في رؤيته للدولة كمرحلة وسيطة تزول باقامة النظام الشيوعي، مما يدفع إلى زوال المجتمع المدني.
ومع بدايات القرن العشرين برز تحول جديد في مفهوم المجتمع المدني، وعاد إلى الظهور بعد انقطاعه، مع اليساري الايطالي “انطونيو غرامشي”(1891-1937) الذي ادخل للمفهوم بعداً حركياً من خلال تفريقه بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وكذلك من خلال دور “المثقف العضوي “(اي المنتمي) لمحاولة فرض “هيمنة” المجتمع المدني في مقابل “سيطرة” المجتمع السياسي. فاعتبر المجتمع المدني بنقاباته، وأحزابه، وحتى الفاتيكان مجالاً للصراع الطبقي، وتحقيق الاشتراكية بانهاء سيطرة الدولة-السلطة (المجتمع السياسي).
ومما سبق نجد ان تطور مفهوم المجتمع المدني، علي المستوى الفكري ، يستند إلى طرفين هما المجتمع والدولة، وهو بذلك تعبير عن فضاء مدني أو وسيط بين طرفي الوجود السياسي (الحاكم والمحكوم) وجدليتهما بين مطالبة المحكوم بمزيد من الحرية، والحاكم الذي يسعي لمزيد من السلطة. وبذلك فان مفهوم “المجتمع المدني” ينطوي على توصيف لعلاقة المجتمع بالدولة، فالحدود بين الدولة والمجتمع المدني هي فكرة نظرية فالدولة باعتبارها تنظيما قسريا تحتكر استخدام القوة، وباعتبارها نسقا بيروقراطياً، واطاراً قانونياً، تضطلع بمجموعة من الاختصاصات والوظائف(الجيش، القضاء، النقد ، العملة …الخ)، أما الفرد فهو من تمارس الدولة، له أو عليه، اختصاصاتها تلك.
وانطلاقا مما سبق ولاتساع هامش الفاعلية للمجتمع المدني، ولاختلاف الانظمة السياسية التي يعمل المجتمع المدني في اطارها ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، فان حركته تختلف باختلاف طبيعة النظام، وبالتالي تختلف الادوار التي تناط بالمجتمع المدني، ويمكن تقسيم المجتمع المدني على هذا الاساس إلى نمطين:
أولهما: يبرز في النظم الديمقراطية، ويهدف إلى الاضطلاع ببعض وظائف السلطة التي لا تستطيع تحقيقها بفعل التراكم الوظيفي، الذي يقلص، بدوره، الحيز الذي تمثله الدولة، ( البيئة ، المرأة ، أطباء بلا حدود…الخ )، أو بهدف رسم برنامج للحكم (الاحزاب)، او التحرر من قيود السوق المفتوحة ودكتاتوريتها (النقابات)، فيقوم المجتمع المدني بدور وظيفي مكمل لوظائف ومسؤوليات الدولة.
وتصبح بذلك منظمات المجتمع المدني منظمات وسيطة، بين المواطن والدولة وفقا لدورها الوظيفي ، وهذا النمط هو تعبير عن نظرة غربية في ظل وجود مؤسسات متبلورة في المجتمع . وقد دفع هذا النمط بالمؤسسات المدنية مع انفتاح الاسواق، والتطور التكنولوجي، والمعلومات (العولمة) إلى طرح قضية “مجتمع مدني عالمي “بين المنظمات ذات الاهداف المشتركة (بيئة، حقوق انسان، مرأة ) .
ثانيهما: يتعلق برسم استراتيجية لمقاومة استبداد السلطة، وقد برز هذا النمط الغرامشوي (نسبة إلى غرامشي ) في اطار مقاومة حركات المجتمع المدني في أوروبا الشرقية للأنظمة الشيوعية المستبدة، ويقوم هذا النمط على اعتبار المجتمع المدني مقاوما للتسلط، في ظل وجود تأطير له (اتحادات ، نقابات ، تجمعات ..الخ)، بهدف الا تطغى ارادة الدولة واستبدادها على الافراد، ويقوم هذا النمط على شعار “مجتمع مدني اكثر..دولة اقل” كما برز في اوروبا الشرقية وامريكا اللاتينية، ويمكن في هذا السياق اعتبار الدور الذي اضطلعت به مساجد العراق لوقف عمليات النهب الذي عم في العراق إثر سقوط النظام السابق مثالاً انموذجياً للشعار المذكور.
ومما سبق نجد ان المجتمع المدني يقدم اجابات عدة: على سلطة الحزب الواحد، وعلى البيروقراطية، وعلى تمركز الوظائف بيد الدولة، وعلى تسلط الاستبداد، وغيرها. وهو بذلك يعبر عن مدلولين : فهو اداة تحليلية لتفسير الظواهر الاجتماعية، وحالة احد طرفي الوجود السياسي (المجتمع) في مواجهة السلطة (الدولة). ومن ناحية اخرى فهو مفهوم معياري لقياس تطور المجتمع، أو كبرنامج لبعض الحركات السياسية. ولذا فإن عملية تطبيقه ليست عبارة عن وصفة يمكن تطبيقها بنفس الشكل على أي منطقة، بل هو رؤية تتوجب أخذ اختلاف العلاقة السياسية في المجتمع بين المناطق بعين الاعتبار ليحقق المجتمع المدني الفاعلية المرجوة.
المصدر: الغد