لعل من أكثر الروايات التي قرأتها في حياتي، واستغربت، ولم أزل، بأنها لم تتحول إلى فيلم سينمائي هي رواية “البذرة الأخيرة –آخر المهجرين”، للكاتب الشركسي “باغرات شينكوبا”، والتي ترجمت إلى نحو خمس عشرة لغة، من ضمنها العربية، وتتحدث عن مخطوط تاريخي وصل للراوي، ليربط القارئ بأسلوب أخاذ بحكاية من يمكن أن يوصف بآخر الـ”الأوبيخ”، وهو بطل الرواية، وتلخص حكايته التراجيديا الشركسية من قتال، وتهجير، ونفي، بدءاً من أراضيهم وروسيا القيصرية مروراً بدروب الهجرة في الدولة العثمانية.
“الأوبيخ”، هي واحدة من القبائل الشركسية، (التي تشير بعض الروايات التاريخية أنها اثنتا عشرة قبيلة، يرمز لكل منها بنجمة وتشكل مجتمعة العلم الشركسي الأخضر بتلك النجوم وتحتها ثلاثة أسهم متقاطعة)، وقد تعرض الأوبيخ شأنهم شأن شعوب شمال القوقاز كلها، لحملات إبادة عسكرية من قبل روسيا القيصرية.
ولعل الشيشانيين كانوا استثناء حين استمرت الحملات العسكرية ضدهم بغض النظر عمن يحكم في موسكو، سواء كان أميرا قيصريا، أو رفيقا حزبيا، أو ممثلا للنظام الروسي الحالي. ولم يعن هذا بحال من الأحوال أن شعوب شمال القوقاز الأخرى، الشراكسة، والداغستانيين، والإنغوش، والأوستينيين، لم يكونوا عرضة للتضييق عبر سياسات أخرى كـ “الروسنة”، والتهميش، والفوقية الاقتصادية، وذلك على مر العهود الروسية.
حالة “الأوبيخ” فريدة بحكم أن سلالة هذه القبيلة، وبحكم السياسة القيصرية، شبه تلاشت، وتراجعت أعدادها، ولهجتهم المحكية مهددة بالانقراض، إن لم تكن قد انقرضت بالفعل، وهو مدعاة وصف باغرات شينكوبا، بطل روايته “زاورقان زولاق”،
بـ “آخر المهجرين”، وهو مدعاة وصفي له بآخر الأوبيخ في بداية المقال هذا.
ذكرني بالرواية والأوبيخ، الحديث والجدل الدائر الآن في موسكو، حول الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014، والتي من المزمع أن تستضيفها مدينة سوتشي المنتجع القابع في شمال الحدود الجنوبية لروسيا. سوتشي هذه كانت أرض الأوبيخ، ومن هنا تبدأ حكاية المعارضة التي تلقاها هذه الاستضافة من قبل الشراكسة، وأيضاً يبدو أن منها مؤشرات تقدم على التحولات المتوقعة في شمال القوقاز.
وأما المعارضة الشركسية، فتلخصها الحملة الدولية التي بدأها ناشطون شراكسة في دول عدة باسم “NO Sochi 2014″، حيث يوردون 14 سبباً لمعارضتهم لاستضافة مدينة سوتشي الأولمبياد، وأهمها أن “الإبادة الجماعية الشركسية، ما تزال غير معترف بها من قبل روسيا… ويجري بناء الملاعب والقرية الأولمبيّة على المقابر الجماعية للشّراكسة الّذين قتلوا بلا رحمة خلال الإبادة الجماعيّة”، وأن سوتشي تقع في “كراسنايا بوليانا (والتي يطلق عليها “التلة الحمراء” من قبل القوات الروسية إشارة إلى كمية الدماء الّتي نزفت)، وهو المكان الّذي احتفلت فيه القوّات الرّوسية في 21 أيّار (مايو) 1864 بنهاية الحرب ضد الشراكسة، وهي الّتي راح ضحيّتها مليون ونصف المليون من الرّجال والنّساء والأطفال، أكثر من 50 % من مجموع عدد السّكّان في ذلك الوقت”.
ولأن سوتشي، كانت نقطة تهجير الشراكسة، حيث أنه من هناك بات نحو 90 % من الشراكسة يعيشون خارج وطنهم. كما أن الحملة تضيف سبباً آخر هو أن الناس “في شركيسيا، ما يزالون محرومين من حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهي فضائل أهم بكثير من الملاعب الرّياضيّة الكبرى، والميداليات الذهبيّة، والاحتفالات الأولمبيّة”، وفيما تضيف الحملة أسباباً بيئية، وأركيوبوجية وتاريخية لرفضهم تلك الاستضافة.
الأسباب السياسية، التي تورد لمعارضة أولمبياد سوتشي 2014، هي جزء من التفاعلات السياسية في شمال القوقاز، والتي تشهد نزوعاً متنامياً منذ أن “هدأت” الشيشان، نسبياً، بعد حربين امتدتا نحو العقد منذ عام 1995، نحو رفض سلطة موسكو، ولعل الهجمات المتكررة في أنغوشيتيا، وداغستان، والجمهوريات الشركسية مؤشر أساسي على هذا النزوع، ومن الملاحظ أن إيديولوجية توحيد شمال القوقاز ترتبط بـ “إمارة القوقاز الإسلامية”، والتي تبرز كمظلة للجماعات الشمال قوقازية المسلحة، وبالتالي فإن المظالم المحلية في شمال القوقاز، سواء غياب الحريات، وتراجع الإنفاق من قبل الحكومة المركزية وتحويل الأموال لتحضيرات أولمبياد سوتشي 2014، كلها تلعب دوراً أساسياً لصالح “الإمارة”، وبالتالي لاحتمالات تصاعد العنف في المنطقة لما بعد الاحتجاجات على سوتشي 2014.