لا علاقة للتظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في لندن، نهاية الأسبوع الماضي، بالرقم الغامض المكرّر على وسائل التواصل الاجتماعي، نقلا عن رئيس حركة حماس في قطاع غزّة، يحيى السنوار، بل إشارة إلى تاريخ يوم السبت، 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، الذي شهد واحدة من أكبر التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، ميّزها عن التي تشهدها العاصمة البريطانية بشكل متكرّر منذ بدء إسرائيل حملتها العسكرية في القطاع أنها جاءت بعد جدل كبير عصف بأروقة السياسة في البلاد، وأدّت إلى إقالة وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا بريفرمان. ومثل هذا التنويه بعدم وجود علاقة بين الرقمين، ضروري، كي لا يُستخدم من اليمين البريطاني في مقولاته السطحية، خصوصا أن هذا اليمين في قلب الجدل بشأن تظاهرات الفلسطينيين.
أما أسباب الجدل، فمردّها أن التظاهرة تصادفت مع إحياء البريطانيين يوم الهدنة (Armistice Day) الذي أنهى القتال في الحرب العالمية الأولى، بدءا من الساعة الحادية عشرة في 11 نوفمبر عام 1918، ومنذاك يحيي البريطانيون هذا اليوم، ولعل من أبرز مظاهره ارتداء دبّوس “زهرة الخشخاش” الذي يتنشر على صدور مرتديه، بشكل ملحوظ، منذ بدايات شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام.
استقبلت وسائل الإعلام المناسبة، هذه المرّة وقبل أسبوع، لوصف تظاهرات المؤيدة للفلسطينيين بأنها يجب أن تُمنع هذا الأسبوع لـ “تعارضها مع القيم البريطانية، ومصادفتها مع يوم الهدنة”. ولم يكن هذا الموقف اليميني مستغرَبا، لكن تدخّل الحكومة ساهم في زيادة التوتر في الأجواء المشحونة. اعتبرت وزيرة الداخلية، سويلا بريفرمان، المظاهرة “مسيرة كراهية”، وطالبت الحكومة بوقفها. وفي المقابل، رفضت شرطة لندن لأنها لم تجد مبرّرا لمنع المظاهرة. كتبت بريفرمان مقالا في صحيفة محلية، تعيد فيها نعوتها للمتظاهرين، حتى أن مكتب رئيس الوزراء اضطر للتنصّل، مشيرا إلى أن المقال لم يوافق عليه من مكتبه، ليعلن عن إقالتها في صبيحة الاثنين أول أيام الأسبوع.
تدخّل الحكومة ساهم في زيادة التوتر في الأجواء المشحونة
ساهمت مواقف الحكومة، وتصريحات بريفرمان، (وقد لا أكون متعسّفا إن قلت نجحت) في إثارة اليمين البريطاني، الذي اقتحم نصب الجندي المجهول، الذي اعتبرته الشرطة مكانا ممنوعا على المتظاهرين. وإثر محاولات شغب، اعتقل ما يزيد على المائة منهم، ومضت مسيرة التأييد للفلسطينيين بحضور أكثر من 300 ألف مشارك، وفق تقديرات شرطة لندن.
يعبّر سلوك حكومة المحافظين، برئاسة ريشي سوناك الذي انتقد التظاهرة أيضاً، عن الوجه الآخر، لاستغلال حرب غزّة لمكاسب سياسية داخلية. ولكن، هذه المرّة، يبدو أن الحزب قد يدفع باتجاه تأزيم المجتمع على حساب جني مكاسب سياسية. سوناك، غير منتخب من الشعب، بل نال شرعيته من تصويتٍ داخلي، داخل حزبه، بعد أن فشلت منافستُه ليز تراس، في إدارة البلاد، وكانا يتنافسان على خلافة رئيس الوزراء المثير للجدل، بوريس جونسون، وشعبية حزبه، وفقا لاستطلاعات الرأي، ولانتخابات تكميلية عقدت في عدة مناطق خلال الفترة السابقة، عدا عن معارك الانقلابات غير المعلن عنها داخل قيادات الحزب. وبالتالي، يفسّر هذا محاولة مغازلة اليمين البريطاني، بهذا الشكل. ولكن هذا لم يحقّق للمحافظين ما أرادوا، فأقيلت بريفرمان، وأعيد تشكيل الحكومة، وتم اللجوء لرئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، وزيرا للخارجيّة في أقل من 48 ساعة بعد انتهاء التظاهرة.
أظهرت دراسة نماذج كثيرة من الجهاديين البريطانيين أن إيمانهم بعدم وجود آلية للتعبير دفعهم إلى اعتناق الإيديولوجية الجهادية
ولكن التغزّل باليمين هذا يعبر عن الوجه الآخر للعُملة، من المنطقة العربية الإسلامية، حين صوّرت مواقف بعض الحكومات الغربية المنحازة لإسرائيل، تعبيرا عن صراعٍ بين الشرق والغرب، “نحن وهم”. وتستعيد هذه الصيغة اللامنطقية، والخطيرة في الوقت نفسه، مقولات أقصى اليمين من الطرفين. وأظهرت مرافقة المتظاهرين، على سبيل المثال، العدد الكبير من المؤيدين البريطانيين، من البيض ومن طبقاتٍ مختلفة، للفلسطينيين، لا بل رفع متظاهرون منهم العلم الفلسطيني، مع شعار “يوم الهدنة”، وهم يسعون بذلك إلى سحب محاولة اليمين احتكار مثل تلك الرموز، لكن هذا شأن بريطاني.
أمر آخر، يظهر خطورة سياسة المحافظين في هذا الشأن، أن مثل تلك التظاهرات من آليات التعبير الأساسية والمشاركة السياسية الفاعلة، فيزيد منعها، بالتالي، من فرص توجّه المُحبطين إلى إيديولوجيات متشدّدة. وقد أظهرت دراسة نماذج كثيرة من الجهاديين البريطانيين أن إيمانهم بعدم وجود آلية للتعبير دفعهم إلى اعتناق الإيديولوجية الجهادية، وحدث هذا بعد حرب العراق، حيث كان كثيرون ممن التقيت بهم في إطار عملي الصحافي يستنكرون ماذا جلبت أكبر تظاهرة في تاريخ بريطانيا المعارضة لغزو العراق عام 2002، لكن هذا لا ينفي أن أعداد الذين وجدوا في السياسة آلية للتغيير بعيدا عن العنف كانت أكبر، وهو ما دفع الأحزاب الرئيسية إلى استقطاب الأقليات منذ ذلك الحين.
يثير لجوء حكومة المحافظين البريطانية المترنّحة، إلى إدارة أزماتها السياسية، باستدعاء حساسياتٍ، انقساماً مجتمعياً
وتكرّر الأمر، ولعوامل أخرى بعد الأزمة السورية، التي باتت مغناطيسا للإسلاميين المتشدّدين، الذين توقّفوا عن الخروج في التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، منذ ذلك الحين، وبالتالي، باتت سمات هذه التظاهرات تتغيّر، وهو ما بدا جليا في تظاهرة السبت المذكور، حيث لوحظ، ومن المعلوم، أن حرب غزّة حاليا أشدّ وقعا وتأثيرا من سابقتها، وجود العنصر النسائي، خصوصا من الأعمار الشبابية، وغياب المظهرية الإسلامية، التي سادت في كثير من تلك التظاهرات في السنوات السابقة، وزيادة المجموعات الغربية، بشكل واضح، كما أشير من قبل، لا بل إن الكثير من تجمعات المثلية في بريطانيا تحضُر بقوة، في مثل هذه التظاهرات منذ بدء الحرب. كما أن الطابع اليساري في التظاهرات السابقة لافت أيضا، خصوصا من الأحزاب العمّالية، والبلشفية… إلخ، وما زال محافظا على الحضور ضمن التحالف المناهض للحرب. والحضور الإسلامي السائد واضح أيضا، من خلال المنظمات الإسلامية المعروفة في بريطانيا، لكن المجموعات المتشدّدة هي ما يُلقى الضوء عليها بطبيعة الحال.
وبالتالي، يثير لجوء حكومة المحافظين البريطانية المترنحة، إلى إدارة أزماتها السياسية، باستدعاء حساسياتٍ، انقساماً مجتمعيا، في بريطانيا، قد لا تكون له نتائج تتوافق مع هدف الحزب منها، وهذا تكرّر في اتفاق نقل طالبي اللجوء الإنساني إلى رواندا، المثير للجدل، أو محاولات منع الهجرة من خلال القنال الإنكليزي، وغيرها من قضايا يبدو فيها الحزب يغازل اليمين المتشدّد، الذي يبدي تطوّرا سريعا في قدراته على الاحتجاج العنيف والردّ السريع، وهو ما أبداه في تظاهراته أخيرا، ما يزيد من مأزق حزب المحافظين غير القادر على التعامل، مع تراجعاته على مستوى القيادة، ومستوى الخطاب، وفي أرقام استطلاعات الرأي، ويبدو أن إدارة تظاهرات 11/11 ستُضاف إلى سلسلة إخفاقات هذه الحكومة في بريطانيا.