بعض الملاحظات الأولية في الشكل والمضمون تبدو لازمة. أولاً، اسم العالِم الذي اختلق في مختبره مسخاً، في رواية “فرانكشتاين” لماري شيلي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، هو فرانكشتاين، وليس الأخير اسم للمسخ كما هو دارج خطأ. ثانياً، أنا مدين بفكرة عنوان المقال للصديق الكاتب محمد الربيعو حين استخدم عبارة “فرانكنشتاين التركي” في إدراج “فيسبوكي”، لوصف الهجمات العنصرية ضدّ السوريين اللاجئين في مدن تركية عدّة، وقد استأذنته باستخدام العنوان، وقد آليت استخدام الوصف بنعت فرانكنشتاين بالمسخ، لتسهيل مهمّتي أيضاً. يقصد بالمسخ هنا ذلك الخطاب الذي جاء استجابة لانقسامات سياسية داخلية، وأزمات مجتمعية، تراكمت في الدولة التركية، وجرى التعامل معها بخطاب أنتج هذا المسخ، متمثّلاً في العنصرية المتزايدة لدى بعضهم في المجتمع، لكنّها اتّخذت حالياً طابعاً عنيفاً ومرتبطاً بالأفعال، لا الأقوال.
ثالثا، وفي ما يرتبط بالموضوع، من الضروري التذكير بأنّ تركيا احتضنت مئات آلاف من اللاجئين السوريين منذ بدء أزمتهم بصدر رحب، وقد تكون أكثر الدول استقبالاً لهم من حيث العدد، لا بل، وطبعاً لمقتضيات ترتبط بمصلحتها، دعمت أطيافاً من المعارضة، وكان هذا مدخلاً لاتهامها بتسهيل دخول المتشدّدين والجهاديين للقتال في سورية، وهذا يوجب توخّي الحذر من الوقوع في التعميم. ولكن لن يكون سهلاً على لاجئ أو لاجئة سوريين يخافان مغادرة المنزل، خشية الاعتداءات العنصرية، تفهمّ الأمر. ويثير هذا بالفعل أسئلة عمّا سمعناه مراراً من الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، أنّ الهجمات العنصرية مرفوضة، ولا تتناسب مع قيم المجتمع التركي، ويَتَّهِم فيها، ومؤيّدوه، المعارضة وغيرها. فما مسؤولية الحكومة التركية التي يهيمن عليها حزب العدالة والتنمية وقائد البلاد الكاريزمي طوال السنوات الماضية؟
من غير المعقول أنّ اعتداءات واسعة، ومنظمة، لا تترافق واعتقالات ومحاكمات تتناسب وحجمها
من جانبٍ، لا توجد هناك إجراءات حكومية كافية ترتبط بإنفاذ القانون، فمن غير المعقول أنّ اعتداءات واسعة، ومنظمة، لا تترافق واعتقالات ومحاكمات تتناسب وحجمها، ولا يمكن فهم عدم وجود تطميناتٍ حقيقية للناس، من قبيل الوجود الأمني، أو الحملات الإعلامية الرافضة مثل تلك السلوكيات… إلخ. كما ساهمت سرديات أردوغان السياسية، خلال السنوات الأخيرة، في إيجاد ذاك المسخ أو فرانكنشتاين العنصري، وإن لم يكن بشكل ومباشر، انعكست في تفسيرات بعض بيانات رسمية تركية أمنية الأحداث. مثلاً، تذكر إحداها أنّ التحريض لارتكاب الاعتداءات جرى في حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي تابعة لـ”أنصار حزب العمال الكردستاني، وأنصار فتح الله غولن، وحزب الشعب الجمهوري، وأفراد يتبعون الولايات المتّحدة وألمانيا”. ويصعب تحديد كيف اجتمع هؤلاء كلّهم مرّة واحدة. لكن زاوية الرّهاب من الآخر المُترّبص، المتآمر على تركيا، واضحة. أمّا الإعلام شبه الرسمي فأشار إلى آخر أحداث في قيصري (وسط تركيا)، باتهام أوميت أوزداغ، اليميني العنصري، الذي عرف بتصريحاته في هذا السياق، لكنّ التوغل في نظريات المؤامرة، وإشعار الأتراك بالتوجّس من المؤامرة المحاكة ضدّهم، كان خطاباً تطوّر خلال السنوات الأخيرة، منذ تحالف أردوغان مع القوميين مُشكّلاً جبهة محافظة، إن جاز وصفها، وهذا انعكس في الإعلام والدراما، وفي حوارات الأتراك المولعين بقصص ذات بعد غرائبي أقرب إلى الخرافة السياسية بمفهومها العلمي.
إذا كانت العنصرية ضدّ السوريين من تدبير المعارضة وغيرها، فما مسؤولية الحكومة التركية التي يهيمن عليها “العدالة والتنمية” منذ سنوات؟
خلال عملي على وثائقي عن استهداف المعارضين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تركيا، منذ سنوات، كان من الصعب جدّاً أن تجد مُحلّلاً تركياً لا يقفز إلى نظريات المؤامرة تلك، التي تتحدّث عن أصابع خفيّة تتحكم في المشهد، حتّى إن لم يكن الموضوع تركياً. الأمثلة كثيرة على هذا الخطاب، الذي بدأ يتعزّز سنة تلو الأخرى، وبالتالي رهاب الأجنبي، والشعور بالاستهداف، عزّزا خطاب العنصريين داخل المجتمع (ومرّة أخرى هذا تأكيد على تصنيف هذه الفئة من دون تعميم)، وإن كان الخطاب المؤامراتي يُسهّل عمل العنصريين أو خطابهم.
بدأ بعضهم يشير إلى أنّ الهجمات ضدّ السوريين، أو المواقف العنصرية، نتاج عمل أمني لتمهيد التطبيع المتوقّع بين تركيا والنظام السوري، لكنّ هذا يحتاج إلى إثبات. اتّخذ إيجاد البيئة المناسبة لمثل هذا الخطاب طابعاً سيئاً تبريرياً لدى مُؤيّدي أردوغان، خاصّة عربياً، وبالتالي، غابت الأصوات التي تنتقد ما يحصل للسوريين، وتحاول أخرى إبعاد المسؤولية عن الحكومة، بشكلٍ لم يفعلوه حين برزت أزمة لاعب كرة القدم الألماني، من أصول تركية، مسعود أوزيل، حين نشر صورة له مع الرئيس التركي أثارت جدلاً في ألمانيا، واستُقبل بصيحات الاستهجان، وتعرّض لعنصريةٍ من بعض الجماهير الألمانية، في قلب الأزمة السياسية بين أنقرة وبرلين. لكنّ المُلفت كانت الحملات ضدّ ألمانيا بين العرب والإسلاميين المُؤيّدين لأردوغان، بترديد مُحكَم لدعاية “العدالة والتنمية” في هذا السياق، عن عنصرية ألمانيا، وكره حكومتها المسلمين، رغم أنها استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوري. غابت هذه الأصوات تماماً في نقد ممارسات “بعض الأتراك” العنصرية و”تقصير الحكومة”.
هناك آلاف من السوريين الذين يسجلّون للعودة إلى بلادهم المنقسمة، وهناك حالة من الخوف، وبعضهم، كما أشرت، لا يغادرون منازلهم خشية الاعتداءات. والملفت أنّ الهجمات تجري في مناطق محافظة، لا بل في مناطق فيها غالبية من الأتراك من أصول عربية. ورغم غياب الأرقام الدقيقة عن هذه النزعة المتزايدة، إلّا أنّ تغذية الشعور بالمؤامرة ضدّ الأتراك، شعباً وحكومةً، وتركيز الخطاب السياسي – الاجتماعي على الخرافة السياسية، جزءاً من الصراع السياسي الداخلي، لمجتمع منقسم أفقياً بين ثنائيات المحافظ – العصري، الديني – العلماني، الأناضولي – اليوناني، الأوروبي – الآسيوي…، وغيرها، تعزّز الخوف من الآخر، وبه تُصفّى الحسابات السياسية، وتدفع الأطراف الأضعف الثمن الأفدح، وتبدو الأزمة ومساراتها، كأننا أمام أعضاء بشرية لموتى يجمعها العالِم فرانكنشتاين ليخلق إنساناً جديداً، فأوجد مسخاً يقتل ويعيث فساداً، حتى أنّه طارد صانعه، في الرواية الأصلية، ليتخلّص منه ومن تفوّقه عليه.
المصدر: العربي الجديد