في أولى زياراتي الصحفية لمدينة النجف جنوبي العراق، عاصمة الشيعة في العالم، وموئل ضريح الإمام علي، اقترح صديقي المنتج الإخباري الألمعي حيدر أحمد آنذاك، أن أكتب مقالا أعنونه بـ “شيشاني في النجف” لأروي تجربتي الشخصية كأردني من أصول شيشانية، ويحمل اللقب هذا في اسمه، وباحث في شأن شمال القوقاز، بحكم الصورة النمطية المنتشرة (أو ما يشاع أنها منتشرة حقيقة) في العراق عن أدوار أفراد من الشيشانيين في تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، حيث ان البعض كان يتحدث عن أن اسمي قد يثير نزعات طائفية، تخبو، أو نرجو أنها تخبو في العراق.
حقيقة لم أجد سوى الترحيب هناك، لا بل حين كنت اصلي في ضريح الإمام على “مكتفاً كما يقولون في العراق عن الصلاة بضم اليدين إلى الرسغين) مر بجانبي أحدهم ليقول: “الله يقبل”، لا بل وجلست مع مراجع شيعية، وحاورتهم، وتجولت في المدينة، ودعيت إلى أكل “دهين أبو علي” مع الشاي العراقي بكرم معهود، رغم تعريفي وتسجيلي لعملي الصحفي باسمي العائلي.
عملت في مناطق أخرى في العراق، ومنها بالطبع العاصمة بغداد، وسجلت بين أوساط المتظاهرين، مرة، من الإطار التنسيقي الشيعي (القريب من إيران) تسجيلًا للكاميرا، مذيلاً باسمي مرة أخرى، ليقول لي أحدهم: “عفية” مباشرة بعد عبارة …الشيشاني، بي بي سي”. لكن من الضروري الإشارة، أن الظروف غير الظروف التي حكمت العراق، كسنوات العنف الطائفي، التي يذكرها العراقيون بمرارة شديدة، ولا هي تلك التي كانت في ظل سيطرة تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية على الموصل وأجزاء أخرى من البلاد، أو في فترة الحرب ضده، وهي حقب أثارت الحساسيات الطائفية، واستدعت بطبيعة الحال، الصور النمطية عن الشيشانيين وغيرهم. وفيما أن هذا يرتبط ببعد سياسي، فالأوساط الشيعية في العراق، على سبيل المثال، استقبلت بترحاب كبير، مشاركة القوات الشيشانية الموالية لروسيا في الحرب الروسية ضد أوكرانيا 2022، كتعبير عن اصطفافات إيديولوجية لا يخطئها المراقب.
زياراتي الأخيرة للموصل كانت قريبة، أي بعد عشر سنوات على سيطرة التنظيم عليها، وسبع سنوات تقريباً على تحريرها. كنت محظوظًا بالاستماع للكثير من المصلاويين عن تجاربهم خلال السنوات الماضية ولقاء عدد من المثقفين، والناشطين المدنيين، وكلهم لديهم حكايات مفزعة عن سنوات “حكم داعش”، والغالب منهم أحال المآسي تلك إلى دافع للإنتاج والفاعلية في تخصصات مختلفة. وبطبيعة الحال، وبحكم اسمي العائلي، استدعيت الصورة النمطية عن الشيشانيين، والنقاش حولها، ولذا جاء هذا المقال بهذا العنوان، بعكس ما تمنى علي صديقي.
الترحيب في الموصل كان دافئاً، وحتى حين الإشارة إلى مقاتلي داعش من الشيشانيين، كان المحاور ينبري للقول: “الموصليون أقدر الناس على عدم أخذ الناس بجريرة غيرهم من قومه أو عشيرته…الخ”، والتذكير بأن السيء لا يمثل إلا أهله. وتكررت الإشارة بأن المقاتلين الشيشانيين في التنظيم كانوا أكثر إرعابًا. كل هذا أعاد لي سنوات من البحث والمقالات، والعمل الصحفي الذي عملت عليها، لتغيير هذه الصورة النمطية عن الشيشانيين.
تلك الصورة النمطية التي تكررت في المخيال الروسي تحديداً من “البرابرة” في العصر القيصري، إلى “الكولاك” أو البرجوازية العميلة في العهد السوفيتي (نفي الشعب برمته بتهمة التعاون مع ألمانيا النازية عام ١٩٤٤ لثلاثة عشر عاماً)، وفي نهايات النظام الاشتراكي بدأ توصيف الشيشانيين بـ”المافيا”، ومن ثم “الوهابية”، في استدعاء للاستشراق الروسي القديم عنهم. وفي العهد الجديد في روسيا، لازمت صفة الإرهاب والتطرف لهم مع بدء الحركة الاستقلالية.
وهذا لم يتوقف في الغرب، بل امتد إلى منطقتنا، وفي مؤشر على كيف تحول وسائل التواصل الاجتماعي مفكرين كبار إلى مجرد مغردين، دون تمحيص أو تدقيق أو حتى تفادي عبارات قد تعد عنصرية، كتب المفكر اللبناني غسان سلامة على توتير (X لاحقاً) عام 2014: “بماذا يختلف الداعشي الشيشاني الذي يستولي باسم الدين على منزل عائلة مسيحية بالموصل عن المستوطن اليهودي الذي يحتل منزلاً عربياً عريقاً في القدس؟”. ماذا لو كتب سلامة عن الليبيين ذلك، مثلاً؟ هل كان هذا سيساعد في مهمته مبعوثًا لها، أو عن السعوديين، أو حتى اللبنانيين…الخ والمشكلة في هذه المفارقات والمقارنات أنها مرفوضة بحكم التعميم الذي تنطوي عليه.
لكن، بعد سلامة، ارتفع السقف في مقابلة لبابا الفاتيكان، رأس الكنيسة الكاثوليكية، وصف الشيشانيين، في لقاء، وصفته الجارديان البريطانية، عن مصادر روسية بـ”العنصرية”، ولأن بعضهم يقاتلون في أوكرانيا (الوصف هنا لمن يقاتلون على الجانب الروسي – الفعل الذي غير مواقف الأطراف الشيعية في العراق عنهم) بـ”القساة” (مع قومية البوريات وهم من متبعي الديانة البوذية). المكتب البابوي نشر اعتذارًا عن التعليق لاحقًا.
كل هذا يحتاج إلى تفكيك. تجب الإشارة إلى أن شيشانيين تورطوا في أحداث عنف، استنكرها الشيشانيون أنفسهم والأمثلة تتعدد، وكانت سوريا (عكس صور نمطية انتشرت عنهم) أولى الجبهات الخارجية التي شارك فيها مقاتلون شيشانيون وذلك بعد أن ضربت روسيا الحركة القومية، لصالح المجموعات الإسلامية، وبالتالي باتت تلك المجموعات تبحث عن تمويل، وموارد للاستمرار، وخروج الكثير من مقاتليهم إلى تركيا بالجوار، وبالتالي تسهيل دخولهم إلى سوريا، ومع ترنح “إمارة القوقاز الإسلامية” الجنوح اليميني لحركة الاستقلال القومية الشيشانية، بدأ بعض الشبان في تشكيل مجموعات قتالية خاصة بهم، وانشق البعض فانضموا إلى جبهة النصرة، وتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، لكن المجموعات المستقلة بقيت الأكبر، وبالمناسبة بعض هؤلاء من غير الجهاديين انتقل إلى أوكرانيا، لأن الهدف لدى كثيرين منهم كان إما إضعاف روسيا وقتالها، وإما استخدام الجبهات تلك لقتال روسيا لاحقاً، كما قال لي البعض منهم في لقاءاتي الصحفية معهم.
صفات الشدة، والقوة، والبنية الجسمانية، وحتى الخبرة القتالية في الشيشان، شكلت عاملاً أساسياً في تشكيل الصورة النمطية عن الشيشانيين، رغم محدودية عددهم مقارنة بمقاتلين أجانب آخرين في حالة الموصل، مثلاً. الكل ساهم في تعميق تلك الصورة، بعض المقاتلين الشيشانيين في التسجيلات الدعائية، وتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، في استخدام تلك الصورة، والمخيال الجمعي المتعاطف في تسعينيات القرن الماضي مع الشيشانيين وقضيتهم. هذه الحالة خلقت صورة نمطية لدى رجل الشارع العادي، لا بل واستخدام اسم “الشيشاني” للشتيمة من قبل بعض الطائفيين.
الإشكالية تكمن في أن عدد المقاتلين الأجانب من قوميات أخرى، وجنسيات أخرى، بالتناسب، كان أكثر من الشيشانيين، لا بل أن التنظيم ببنيته الاجتماعية كان عربيًا، وفي مناطق كالموصل محليًا، لكن الصورة النمطية للشيشانيين سادت، وممن التقيت بهم كنت أسأل إذا ما التقوا بشيشاني “داعش”، وبحكم عدم معرفتهم اللغة، فإن القلة التي ردت بالإيجاب، افترضت أن فاتحي البشرة، وأصحاب اللحى الشقر/الحمر هم شيشانيون… وهناك من قال أن بعض النسوة قلن أنهم شيشانيات (ونعرف أن بعضهن ذهبن مع أزواجهن والبعض استعادتهن السلطات الروسية والشيشانية الموالية لموسكو بعد هزيمة التنظيم).
مشكلة صفة الصورة النمطية التي لا تستند إلى وقائع وحقائق، وهذه لعمرك إشكالية أساسية تتمحور في غياب دراسات جادة، أو قلتها، في فهم البنى الاجتماعية التي شكلت تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية في الموصل، مشكلة عائقًا أساسيًا لفهم ما حدث حقيقة في الموصل وما حولها من وقائع، لصالح أساطير لا تساعد بتاتاً في خلق نموذج يقي المجتمعات من أن يتكرر ما حدث في يونيو/حزيران قبل عشرة أعوام.
المصدر: نخبة بوست