في لقائه الأوّل المطوّل على شاشة بي بي سي، كان من المتوقّع أن يواجه رئيس الوزراء العمّالي، كير ستامر، بأسئلةٍ تختلف إلى حدٍّ ما عن التي كانت تُطرح عليه، قبيل انتخابه، وحزبه بفوز ساحق. وبالفعل، أعطت محرّرة الشؤون البريطانية، في القناة، لورا كينسبرغ، مساحة لسؤال ستارمر، عمّا إذا كانت بريطانيا عنصرية، وهو سؤال يشمل المجتمع أكثر من الدولة، في السياقات الأوروبية التي استبعدت فيها الدولة نفسها عن سياقاتٍ متحيّزة “داخلياً”.
أجاب ستارمر: “لا أعتقد أن بريطانيا عنصرية، لا بل تقوم على أناس محترمين Decent”، ولكنه أبدى تخوّفه من تصاعد “اليمين المتطرّف”. وتنطلق رؤيته من أنّ هذا اليمين يحمل في طياته العنصرية، وهي نابعة من سخط على الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية، من قبيل إصلاح حياة الناس، عبر إصلاح الخدمات الأساسيّة: الصحة، والعمل، وعدالة التوزيع، وغيرها.
منطق يذكّر بتصريح للسياسي البريطاني المثير للجدل، جورج غالاوي، سمعه كاتب السطور، قبيل الانتخابات التي لم ينجح فيها، حين قال إنّه “حسب للمجتمع البريطاني أنه لم يصوت يوماً لفاشي”، وفي هذا لمز لمجتمعات أوروبية أخرى، وإن كان غير مقصود، فمثل هذه الحوارات لا تخرُج عن سياق الجدل المرتبط بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهذا له عودة.
أمّا بالنسبة إلى ستارمر، في معرض حديثه عن اليمين المتطرّف، فكان حازماً في أنّ الشغب مرفوض وسيجري التعامل معه بحزم، وهو ما حصل، حيث إنّ أسئلة “بي بي سي”، وإجابات ستارمر، تستعيد ما حدث في يوليو/ تموز الماضي، حين شهدت مناطق عدّة في من بليموث جنوباً إلى سندرلاند في الشمال الشرقي، ومناطق متفرقة أخرى، أحداث شغب وعنف استهدفت مساجد، وتجمّعات لمسلمين ومهاجرين، في أفعال عنيفة ضدّ المهاجرين، وخصوصاً المسلمين.
أخبار مضلّلة
وطبعاً، تطوّرت الأحداث كلّها بفعل أخبار مضلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، لحادث مفزع في العشرين من يوليو/ تموز الماضي، وبينما الشمس النادرة في صيف بريطانيا تسعى للانتصاف، ومجموعة من الفتيات الصغيرات يتقمّصن شخصيتهنّ المفضّلة، المطربة تايلور سويفت، في حصّة تدريبية على الرقص، دخل عليهم أكسل موغناوا روداكوبانا، يحمل سكّيناً بيده، وعقلاً يمتلئ بأحاديث وهلوسات عن مجازر رواندا، بلاده الأصلية، وهي مجازر لم يشهدها هو بعمره الذي لم يتجاوز السابعة عشرة، حيث إنّ مجازر الهوتو والتوتسي جرت منتصف التسعينيات، ولا نعرف، بالتالي، من أين جاءته تلك الهلوسات، بارتكاب مجزرة في بريطانيا أيضاً، وهذا مردود للمحكمة للبت فيه.
قتل ثلاثة فتيات صغيرات، وتسبّب بجروح أخريات. جرى الحادث في سوثبورت في مانشستر، وفي منطقة ميرسايد، التي قطن فيها فترة منفذ هجوم إستاد مانشستر الإسلامي، في عام 2017، ليزيد من تداخل المشهد هناك وتشابكه.
كان لجوء اليمين إلى العنف، بعد أحداث ساوثبورت، فرصة ذهبية للحكومة العمالية، لتسهيل اصطيادهم
التطوّر اللاحق لافت للنظر، فالتيار اليميني يخرج في تجمّعات لاستهداف المسلمين، ودور عباداتهم، بناءً على معلوماتٍ مضلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، تقول إنّ روداكوبانا مسلم، وهاجر إلى بريطانيا في قوارب الهجرة التي تعدّ مثار جدل كبير في البلاد، عام 2023، ولم تكن أيّ معلومة منها صحيح، فقد ولد في ويلز، وليس مسلماً، لكن لليمين المتطرّف حساب يريدون أن يصفوه، بأيّ شكل، وبمنطق “عنزة ولو طارت”، بشأن المسلمين والإسلام، والهجرة غير الشرعية.
صبغت مشاهد العنف، والشغب، بعض الشوارع البريطانية، إلى درجة أنّ بعضهم تحدّث عن إمكانيّة اندلاع حرب أهلية، وأصيب أكثر من مائة شرطي، وبات الغضب، والعنف عنواناً ومشهداً معتاداً لعدّة أيام في بعض المناطق.
استدعى ردّ الفعل الحكومي إجراءات عدّة اتبعتها الحكومات المتعاقبة، مع التيار اليميني المتطرّف، الذي بات أكثر تنظيماً وخطورةً في السنوات الأخيرة. لكن من الضرورة الإشارة إلى ملاحظة كل من ستارمر وغالاوي عن المجتمع البريطاني، تكتسب صدقية عالية، بحكم أنّ السياسة البريطانية منقسمة بين يمين الوسط ويساره، بين العمال والمحافظين، ووجود هذا الانقسام لطالما خفّف من وطأة حدّة النزوع المتطرّف في السياسة، بمعنى أنّ اليميني المتطرّف، يصدّه وجود يمين “وسط ومعتدل”، وبالتالي تخفّف الحدّة، باللجوء إليه. فعلى سبيل المثال، إنّ الأحزاب التي تشكّلت لـ “استعادة اليمين من حزب المحافظين”، مثل أحزاب أحد دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي الكبار، نايجل فراج، المتعاقبة، وآخرها Reform أو الإصلاح، كانت مغناطيساً لمن يريد ترك حزب المحافظين، لكنّها لم تستطع استقطاب أصوات جديدة، وحتى من ذهبوا إليها انتهوا، في أحيان كثيرة، بالعودة إلى “المحافظين” أو اعتزال السياسة.
لم يستطع اليمين أن يشكل تهديداً إلّا حين توجّه إلى السرّية
ولم يكن اليسار أيضاً استثناءً، وفيما عدا حالة جيرمي كوربن، التي ارتبطت بصراعاتٍ داخلية، يعود تطرّف اليسار دوماً إلى حاضنته العمّالية، وهناك أمثلة عديدة مثلاً من مؤيّدي “الجيش الجمهوري الإيرلندي”، أو ممّن تركوا الحزب ليكونوا أحزاباً أكثر يسارية، ولكن بقوا محدودي التأثير أو اختفوا عن المشهد.
“أخرج العنف للعلن، فيصيدوك بسهولة”
وبالتالي، لم يكن أمام تطوّر اليمين المتطرّف في بريطانيا وللاستمرار والاستجابة، حل سوى أن يكون عنيفاً وسرّياً، وهذا ما بدا في تنظيم وتوزيع للمهام في التجمّعات… شبان مفتولو العضلات، بأزياء أشبه بالعسكرية، يتجمّعون أمام حانات معينة، قبل الانطلاق، وهذا من وحي تجربة شخصيّة لكاتب السطور حين عمل على تغطية تلك التجمّعات مراسلاً صحفياً. لا يتدخّل المنظمون بشيء في البداية، ويبقى دورهم تنظيمياً، وفقط للتدخل في حالة الطوارئ، ويمكن أن يعتمدوا على أطفال صغار السن، لإثارة الفوضى، ككسر كاميرا لفريق تلفزيوني، أو نزع حجاب امراة، أو افتعال مشاجرة. وبالتالي، تبدأ عملية العنف أو الشغب حسب المستهدف. أمّا وقود ذلك الشغب، فهم رجال في منتصف العمر، مُكثرون من شرب الجعة، وعراة في الجزء العلوي من أجسادهم، ويعتبرون ما يقومون به فعلاً ما لأجل أهداف هم لا يفهمونها، لكنهم محبطون من مقولات هم غير متأكدين منها، ولكن هذا كلّه، في حالة الفوضى، لا يهم.
وجد إحصاء لـ YOUGov عام 2020 أنّ كثيرين من المجتمع الأسود في بريطانيا يعتبرون المجتمع البريطاني عنصرياً “بدرجة كبيرة” أو “إلى حدّ ما”، بنسبة تجاوزت 84%
لم يستطع اليمين أن يشكل تهديداً إلّا حين توجّه إلى السرّية. فالأمثلة من بريطانيا مثل الجبهة المتحدة بداية الثمانينيات، ومروراً بـ “الحزب القومي البريطاني”، بقيادة نيك غريفين، أو “عصبة الدفاع الإنكليزي” مع تومي لي روبنسون، وغيرها كلها أُفرغت من محتواها، بشكلٍ قانوني، عبر استهداف الزعامات، وعدم وجود الفرصة للتجنيد، والتطوّر، وبالتالي التحوّل للسريّة، كان مصدر النجاح لهذا التيار، وخصوصاً مع تنامي “الإرهاب اليميني” في أوروبا في عدّة مناطق، وإن كانت على أشكال متفرقة. وقد ارتبط هذا أيضاً بمناطق تعبّر عن خطوط التماس تلك، باعتبارها بيئة خصبة لليمين بحكم الظروف الاجتماعية – الاقتصادية، فيها، وبالتالي، قُوبل نجاح الشغب في مدن مثل ميدلزبره، أو سندرلاند، أو بعض أحياء مانشستر، وبدرجة محدودة جداً، بفشل ذريع في لندن أو برايتون، ومن الناس، والمظاهرات المناوئة الرافضة لكلِّ أشكال العنصرية، في المناطق الأكثر كوزموبولتية.
وعلى ذلك، كان لجوء اليمين إلى العنف، بعد أحداث ساوثبورت، فرصة ذهبية للحكومة العمالية، لتسهيل اصطيادهم، وبالتالي، رفعت أحكام السجن بشكل كبير، وخصّصت حملات اعتقالات طاولت المئات، وهذا ما يفسّر الثقة التي يتحدّث بها ستارمر، فقد قدّم له اليمين المتطرّف فرصة ذهبية، لضرب شبكاته، بعد أن خرجت من السر إلى العلن.
التشابه مع “الهوليغانز”
لطالما اعتبرت الجماهير الإنكليزية الأسوأ في أوروبا، ويربط مراقبون وعلماء اجتماع كثيرون تطوّر عنف اليمين المتطرّف مع ثقافة شغب الملاعب الذين عرفوا بـ “الهوليغانز”، الذين كانوا سبباً في حرمان النوادي الإنكليزية لكرة القدم من اللعب في المباريات الأوروبية في ثمانينيات القرن الماضي سنوات طويلة، لا بل إنّ العنف الذي أرتبط بـ “الهوليغانز”، عبّر عن عنفٍ اجتماعي – سياسي سنوات طويلة، واجهته السلطات البريطانية بخطّةٍ شاملة على مستوى الأمن (الاعتقالات، وملفات أمنية، ورفع الأحكام)، ومستوى اللوائح (على سبيل المثال، اقتحام الملعب اليوم يُحرَم من يفعله من دخول الملاعب مدى الحياة وغرامة مالية عالية، وكذلك السلوك العنصري أو العدواني…الخ)، ومستوى التنظيم (زيارة أعداد المراقبين وتدريبهم، بوابات أضيق، وساعات الدخول محددة… إلخ)، وكلّ هذه السياسات مصحوبة بقوانين مفعّلة وغرامات مالية، وتكنولوجيا عالية أنقذت سمعة الكرة الإنكليزية، وتنفيذ السياسات بتلك الصورة والحزم، كان فرصة من اليمين المتطرّف لستارمر، والأجهزة الأمنية في بريطانيا.
السياق الأوروبي
لكن نقاشات ستارمر الواثقة لا تخرج بعيداً عن السياق الأوروبي، الذي يعود ويفرض نفسه، كل مرّة منذ قرّر البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو خروج ما زال يتسبّب بجدلٍ كثير، وفيما يطلّ اليمين برأسه في عدة دول (هولندا، والنمسا، وألمانيا في الانتخابات المحلية)، ووجود نوع من المشاركة الواضحة لليمين المتطرّف في أكثر من دولة، كذلك تتحدث تقارير كثيرة عن إمكانيّة عمل اليمين في أوروبا على نسج شبكاتٍ ممتدّةٍ، لإيجاد تيّار أوسع، ممتد عبر القارّة، وصولاً إلى الولايات المتحدة، لكن بنية تلك التنظيمات المغلقة لا تسمح بذلك، وهذا لا ينفي خطورة الفكرة. ولذا تبقى بريطانيا على سياساتها “المحافظة” أو التقليدية بشكل أدق. وهنا، ستارمر، قادر، في هذا المجال، على أن يقدّم النموذج البريطاني، الذي يعالج أسباب الاحتقان (الخدمات الاجتماعية، والبطالة، والصحة، والمساواة… إلخ)، من دون الاحتفاء كثيراً بالنجاح الأمني، وتصديره إلى أوروبا أيضاً. وبهذا، يقدّم اليمين المتطرّف، مرّة أخرى، فرصاً مهمة للعمال واليسار، من دون أن يرغب في ذلك. لكن من الضروري الإشارة إلى أنّ قوّة ستارمر، وغيره، تنبع من إيمان المجتمع بالسياسة وسيلة للتغيير لا العنف، ورفض التطرف. لكن كيف ترى الأقليات المجتمع البريطاني، وهنا إشكالية كبيرة. فمثلاً، وجد إحصاء لـ YOUGov عام 2020 أنّ كثيرين من المجتمع الأسود في بريطانيا يعتبرون المجتمع البريطاني عنصرياً “بدرجة كبيرة” أو “إلى حدّ ما”، بنسبة تجاوزت 84%. وإذا ما سألت العرب والمسلمين، وخصوصاً بعد الحرب في غزّة، تجد تحفّظاً كثيراً، وبالتالي، هذه الزاوية التي تستدعي انتباهاً، لدفع التناغم داخل المجتمع البريطاني، وهو التحدّي الذي سيواجه رئيس الوزراء ستارمر، إذا ما أراد المضي في هذه السياسة، من دون الاكتفاء بتقليديّة السياسة البريطانية.
المصدر : العربي الجديد