فوز حزب العمّال البريطاني بأغلبية 412 مقعداً في الانتخابات العامة البريطانية، في أكبر نتيجة يحقّقها الحزب (منذ عام 1997، حين فاز آنذاك، بزعامة صاحب “الطريق الثالث” توني بلير)، ليُمْنَى حزبَ المحافظين، المُتصدّر الغالبية والحكم في “10 داوننغ ستريت” منذ 14 عاماً، بهزيمةٍ تاريخية. وتستدعي هذه الانتخابات عدة ملاحظات تُؤشّر إلى ما سيترتب عليها، وقد جاءت بزعيم حزب العمّال كير ستارمر (أقرب لفظ صحيح له ستامر) رئيساً لوزراء بريطانيا.
أولها، وكما قال مراقبٌ محلّي، هو ليس نصراً كاسحاً لحزب العمّال فحسب، بل هزيمة قاسية وعقوبة الناخبين للمحافظين، الذين تخبّطوا سياسياً في أوحال فضائح مستمرّة خلال آخر سنوات مضت (حفلات خلال إغلاق كورونا، وعقود التشغيل خلال الوباء، والانتخابات المُتكرّرة، وأزمة القيادة… إلخ). ورغم الأداء المُتمكّن للحزب خلال وباء كورونا (ولا أقول الجيّد)، إلّا أنّ خسارته كانت تعبّر عن غضب الشارع البريطاني من أداء الحزب، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء السابق، وزعيم الحزب إلى حين، ريشي سوناك، حين قال في خطاب الاستقالة “سمعنا غضبكم بوضوح”. ورغم أنّ العبارة تقليدية في السياسة البريطانية بين أوساط المهزومين انتخابياً، إلّا أنّ سوناك لم يكن يسمع نفسه، مثلاً، حين كان يعارض الحضور، في أحد آخر نقاشاته الانتخابية، بصحّة قراراه في محاولة نقل اللاجئين إلى رواندا المثير للجدل، رغم اعتراض الحضور على قانونيّته، لكنّ غروره وإصراره على رأيه كانا تعبيراً عن أزمة الحزب المتزايدة. ولعلّ خسارة قيادات كبرى مثل جاكوب رييس موغ وليز تراس (صاحبة الأيّام القصيرة رئيسةً للوزراء)، وغيرهما، تعبيراً عن أنّ الجناح اليميني في الحزب ذاق من الهزيمة أمرّها، أكثر من التيّار الإصلاحي. لكن هذا غير مهمّ في النظام البرلماني، فحتّى معارضة الحزب ستكون ضعيفة في ظلّ مقاعده الـ120 المحدودة، وتزايد مقاعد حزب الليبراليين الديمقراطيين، الذي يسعى منذ سنوات إلى التكفير عن “خطيئة” دخوله الحكومة الائتلافية مع المحافظين في 2010، رغم التباعد الأيديولوجي بينهما، إلى أن يكون أقرب إلى السياسات اليسارية.
توقّع بعضهم أن تكون غزّة عاملاً أساسياً في هذه الانتخابات، لكنّها ليست كذلك
أمّا خسارة الجناح اليميني داخل حزب المحافظين، فانعكست في مقاعد خمسة لحزب الإصلاح، وهو حزب يميني مُتشدّد، وآخر إصدارات الجناح اليميني، ولأول مرّة يكسب زعيمه المثير للجدل، نايغل فاراج، مقعداً في ويستمنستر، مع أربعة آخرين، بعد أن اتّبع مناورة سياسية تقوم على استقطاب الجناح اليميني داخل “المحافظين”، ولو في مستوى الخطاب، ومهاجمة حزب العمّال لصالح الحزب المنافس، علّه يحظى بسعة في حكومة جديدة للمحافظين (قيادات في حزبه أعلنت تأييدها حزب المحافظين أخيراً). المقاعد الخمسة تلك، ذات طابع رمزي، أكثر منه سياسياً مؤثّراً، وهو ما بدا في إعلانه الفوز، إذ استُقبِل بصيحات الاستهجان من ناشطين ضدّ الفاشية والتطرّف، ما عبّر عن حال التباعد بين الشارع واليمينيين، على العكس ممّا نشهده في عواصم أوروبية عدّة من صعود اليمين. يُذكّر هذا بما قاله في إحدى حملاته الانتخابية شرقي لندن قبل أسابيع السياسي المُؤيّد لفلسطين، اليساري جورج غالاوي، الذي خسر مقعده البرلماني الذي كان قد فاز به في انتخابات تكميلية قبل أشهر، وكان في مهمّة مواجهة حزب العمّال: “يجب أن نقدّر للشعب البريطاني أنّه لم يَنتخِب ولا مرّة يمينيّاً أو فاشيّاً”، وهذا يتّضح في النزوع الوسطي لدى الناخب البريطاني، يساراً أم يميناً، في سلوكه التصويتي. ولعلّ ذلك هو سبب فقدان غالاوي مقعده بحكم وقوفه في أقصى اليسار. والسياسة البريطانية تنزع إلى التقليدية، وهذا سبب نجاح الأحزاب التقليدية، فإن أراد أحدهم معاقبة المحافظين فسيصوّت لـ”العمّال”، كما أظهرت النتائج في هذه الانتخابات، ولا يصوّت بشكل ثوري، إلّا في حدود دنيا.
فوز حزب العمّال الكاسح في الانتخابات البريطانية عقوبة الناخبين للمحافظين، الذين تخبّطوا سياسياً في أوحال فضائح مستمرّة
أمّا فقدان غالاوي مقعده فواحدٌ من مُؤشّرات على لا مركزية حرب غزّة، والمأساة التي حلّت بأهل القطاع، لا على السياسة الخارجية عموماً، في تقديرات السياسة المحلّية في بريطانيا. توقّع بعضهم أن تكون غزّة عاملاً أساسياً في هذه الانتخابات، لكنّها ليست كذلك. أجل، ما زال الاختبار الحقيقي لتلك المقولة في الانتخابات الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل، لكن من الواضح أنّ الشأن الداخلي ما زال طاغياً على اهتمامات الناخب البريطاني، كما أظهر ذلك أنّ ما يُعرف بـ”الصوت المسلم”، الذي أرتبط، في أحيانٍ كثيرة، بقضايا خارجية، وهو ما أضعف المبادرات المسلمة والعربية كلّها فيما يتعلق بتأثير ذلك الصوت في الانتخابات البريطانية. كما أنّ محاولة إخراج هذا الصوت من عباءة الأحزاب التقليدية (لأيّ سبب) يفقد ذلك الصوت تأثيره، كما شهدنا في هذه الانتخابات. ويذكّر هذا الوضع، بشكل كبير، بتوجّه شبّان مسلمين كثيرين إلى التشدّد بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حين خرج مليونا متظاهر لمعارضة الحرب، ولكنهم لم ينجحوا في ثني حكومة بلير عن المشاركة فيها، وكثير من أولئك الشبّان كانوا يضربون مثلاً بفشل البديل السلمي – الديمقراطي، وهذا ما يُتوقّع أن تفعله غزّة في انتظار الانتخابات الأميركية.
إذاً، حكومة عمّالية بأغلبية مريحة، فيما يتعلّق بالجانب الإجرائي. وفي المستوى السياسي العملي تحدّياتٌ كثيرة، لعلّ أبسطها، وتقوم على افتراض بسيط، لقاء ستارمر بدونالد ترامب إذا ما فاز الأخير بالانتخابات، وتلك العلاقة “الخاصّة”، كما توصف، في ظلّ وجود ملفّات غزّة وأوكرانيا والعلاقة الشائكة مع الاتحاد الأوروبي بعد “بريكست”، حتّى داخلياً، من قبيل التعامل مع الأزمة الاقتصادية، وإعادة ترميم صنائع حكم المحافظين، خاصّة في المستوى الاجتماعي – السياسي، ولكن تلك حكاية أخرى تُروى في حينها.
المصدر: العربي الجديد