منذ فوز الرئيس الأميركي جورج بوش بالفترة الرئاسية الثانية، وصعود مسألة الاصلاح والتحول نحو الديمقراطية في العالم إلى سلم الأولويات، وعلى رأس أجندة السياسة الخارجية الأميركية، برز استكمال لما وصف بـ”معركة كسب العقول والقلوب”، وبرزت دراسات عدة تدعو إلى فهم العالم العربي والإسلامي بين الأوساط الاكاديمية الاميركية. ولعل أشهر هذه التقارير هو تقرير مركز الدراسات الاستراتجية والدولية في واشنطن، والمعنون بـ”العلاقة الأميركية من الصراع إلى التعاون”، والذي عرض له محمد أبو رمان على صفحات “الغد” منذ أسابيع. ويتحدث التقرير عن استراتجيات محددة ترفد مسألة فهم الآخر بين الطرفين العربي والأميركي بدلاً من التصادم.
ورغم هذا التوجه الملحوظ، يبدو أن في أوساط المجتمع السياسي والمدني الأميركيين من يدفع باتجاه التصعيد، واستمرار اللغة المتطرفة للإدارة الأميركية في التعامل مع العالم العربي، وكأنهم من محبذي الصدام الحضاري مع هذا الشرق، المثقل بالهم الاقتصادي والقمع السياسي، واللذين يعدان عاملين مساعدين في الرد العنيف العبثي.
فمنذ أن قدم البرفسور بجامعة هارفارد، “صامويل هنتجتون”، مقاله “صدام الحضارات”، والذي أصبح كتاباً فيما بعد، عام 1993، وهو يثير جدلاً واسعاً، ما بين رافض لكل الطرح، وبين من يعده معالم استراتجية اميركية، تستبدل السياسي بالثقافي والديني في سلوك الدولة، وبين من وجد فيه تأكيداً لفرضيات الصراع الديني، كما فعل بعض الإسلاميين، وفقاً لملاحظة “عبدالاله بلقزيز”.
ورغم كل هذا الجدل، يلاحظ أن هناك في الغرب من لا يرغب في نضوج سيناريو “فهم الآخر”، والأجندة الجديدة، وهو الأمر الذي يتضح بحادثة نشر صورة الرئيس العراقي السابق “صدام حسين” بملابسه الداخلية، وقد سبقه حدث أكبر جللاً وأعظم وقاحة، وهو تدنيس المصحف الشريف، مع الفارق بين الحادثتين.
الاشكالية في هذا النوع من الاهانات، ومن منظور علم السياسة، أنها لا تكون بمحض الصدفة، فهناك تعمد في التسريب عادة، وهو ما يقترب في تعريفه من الاهانات الجنسية في الصراعات( وفي هذا تدليل على أن المسربين يعيشون في حالة صراع)، والتي تهدف إلى استخدام الجسد لإيصال رسالة إلى “العدو”، وغالباً، وفي حالات الاغتصابات، هو استخدام لجسد المرأة “كرمز للمعركة” لإيصال رسالة من رجل إلى رجل، هادفة إلى الاهانة وتحطيم المعنويات.
وباعتبارها رسالة صراعية، إن جاز التعبير، فهي بالتالي تتوجب العلنية، ولذا يشير المتخصصون في الصراعات ذات الطابع الاثني، والتي شهدت ايذاءات جنسية، إن هذه الايذاءات غالباً ما تكون علنية، وأمام أقارب الضحية ممن يمثلون “العدو”، ولذا فإن “تسريبات” فظائع أبو غريب، أو الصور المهينة، كما كتبنا سابقاً في “الغد”، ليس مجرد تسريب، بل رسالة مقصودة.
الإشكالية المرتبطة بمثل هكذا حوادث، أنها تثير النزعات الأولية بشكل غير عقلاني، وبالتالي تتولد ردات فعل عنيفة، مما يوسع من المأزق الصراعي، فتكون الساحة مفتوحة للمتطرفين من الطرفين. وفي الحالة الراهنة، فإن الاشكالية تكمن في أن يحال “صدام حسين” إلى هذا الرمز “المهان” بذات الوقت، وهو ما يرفع أسهمه لدى الناس، وبالتالي تطرح المقولة السطحية “العرب لا يرغبون بالحرية بطبيعتهم”. وبالتالي، تعمل الآلة الإعلامية المؤيدة للصدام الحضاري بدندنتها المعروفة، وهذا يصح في حالة نشر صور الرئيس العراقي السابق “صدام حسين”، دون أن يدرك، صانعو القرار السبب الحقيقي وراء هذه الشعبية.
الاشكالية الأكبر ترتبط بقصة تدنيس القرآن الكريم، وهي تمس ليس فقط مسلمي العالم، بل وكل مسيحيي الشرق، ودعاة الانسانية في كل العالم، وما من سبب أدعى لتوفير بيئة خصبة للرد العنيف أكثر من مس العقائد. ولذا، فإن الإدارة الأميركية مطالبة، إن كانت ترغب بحق بالاقتراب من المجتمعات العربية، توفير الصيغة القانونية المناسبة لتحارب “صدام الحضارات”، كما أقرت بعد الحادي عشر من أيلول تشريعات رأت فيها حفاظاً على أمنها، ورأى فيها العديد من المفكرين والناشطين الأميركيين مساساً بالحريات الأساسية.
عدم اتخاذ الصيغة القانونية هذه، والعقوبات الرادعة، وعدم التحول في السياسات الأساسية التي تهم الشارع العربي، سيبقي من العلاقات الأميركية-العربية تراوح مكانها، حتى على مستوى البنى المجتمعية. فما من زائر غربي عادي، غير رسمي، إلا ويواجهه بأسئلة تدور في مجملها عن السياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية، لا عن طبيعة المجتمع والنظام السياسي في الولايات المتحدة، وما ذلك إلى مؤشر أساسي على كيفية ادارة التقارب المجتمعي بين الطرفين.
المصدر: الغد