يأتي التفجير الانتحاري في مطار موسكو دوموديدوفو، والذي أودى بحياة ما يزيد على ثلاثين قتيلا، وإصابة 130 جريحا، ليعيد الأسئلة مرة أخرى عن علاقة مركز الدولة الروسية بطرفها الإقليم في شمال القوقاز. هذا الإقليم الذي طالما وصف بخاصرة روسيا الرخوة، وظل تاريخيا يشكل مصدر تهديد للأمن القومي الروسي.
هذا التفجير سيطرح متغيرين أساسيين في السياسة الروسية، أولهما يرتبط بعلاقة رئيس الدولة ديميتري ميدفيديف برئيس الوزراء فلاديمير بوتين، وأيضاً فيما يتعلق بالسياسة المتوقعة تجاه شمال القوقاز.
على المستوى الأول، وعلى الرغم من أن معظم الدراسات أشارت إلى نوع من الخلاف بين ميدفيديف وبوتين على السلطة، إلا أن الأخير ما يزال الرجل الأقوى في روسيا، بينما الأول يلقى قبولاً أكبر دولياً. معظم الدراسات الأوروبية طالبت السياسيين الأوروبيين، وحتى الاميركيين، عدم التركيز على هذا الخلاف، وإنما على طرح الرئيس الأميركي باراك أوباما حين أشار إلى الضغط على زر “إعادة التشغيل” للعلاقات مع روسيا. وطبعاً العلاقات الغربية، والأوروبية منها تحديداً، بقيت مرهونة أكثر بالاعتماد على الطاقة الروسية منها بالعلاقات الشخصية.
ولكن الآن، مع هذه التفجيرات، وقد سُبقت أيضاً بتفجيرات مترو الأنفاق، واستمرار توتر الأوضاع في شمال القوقاز وتواتر العنف فيه، فإنه يعد فشلاً لميدفيديف، باعتبار أن بوتين كان المسؤول عن السياسة الحازمة التي اتخذها ضد الشيشان بعد اندلاع الحرب الشيشانية الثانية العام 1999.
وعلى الرغم من أن هذه السياسة هي التي انتجت الحالة المتوترة في شمال القوقاز حالياً، فقد ثبت فشلها بدليل العنف المتزايد في المنطقة، لا بل وامتداده من الشيشان إلى الجمهوريات المجاورة، ليشكل حالة أمنية تمثلت بـ”إمارة القوقاز الإسلامية”، والتي شكلت مظلة لجميع المجموعات المسلحة في شمال القوقاز.
هذه “المظلة”، هي الأخرى انقسمت أيضاً إلى قسمين: قسم أو تيار جهادي يرغب في توسيع العمليات العسكرية لتشمل جميع مناطق شمال القوقاز، وروسيا الفيدرالية، وحتى بعض مناطق آسيا الوسطى. ويبدو أن نشاطه انعكس في العمليات الأخيرة في موسكو، ومنطقة شمال القوقاز. وبات لهذا التيار منظرون وداعمون خارج الإقليم، وخاصة في الشرق الأوسط والدول العربية.
بالمقابل، هناك تيار أو قسم آخر في “إمارة القوقاز الإسلامية”، يدعو إلى إعادة الزخم للقضية الشيشانية، وحصر نشاطات “الإمارة” في الشيشان. وقد استطاع هذا التيار شن هجمات عدة داخل الشيشان، كان أكثرها تغطية إعلامية الهجوم على بلدة الرئيس الموالي لروسيا رمزان قاديروف، وعلى مبنى البرلمان العام الماضي.
مهما يكن من أمر، فإن الانقسام في “إمارة القوقاز الإسلامية”، وعلى عكس الانشقاقات في الجماعات المسلحة، يبدو أنه لا يشي بضعف لدى المجموعات المسلحة، بل على العكس، فمن الواضح أن كلا القسمين قادر على تنفيذ هجماته، وهو بالتالي يعمق الأزمة الروسية في التعامل مع ملف شمال القوقاز. كما أن السياسة الروسية التي قامت على اغتيال قيادات هذه المجموعات المسلحة، دفعت إلى بروز جيل جديد غير معروف للأجهزة الأمنية الروسية، مما يمنح تلك المجموعات ميزة نسبية.
وعلى ما سبق، فإن تفجير موسكو الانتحاري الأخير، إن كان سيعمق الأزمة السياسية داخل موسكو، ويظهر قدرة الجماعات المسلحة في شمال القوقاز على تنفيذ العمليات، وخاصة مع وعود ميدفيديف بملاحقة من وصفهم بـ”الإرهابيين” الذين يقفون وراء الحادث، فإن إعادة نشر بعض القوات الروسية في شمال القوقاز، أو إرسال وحدات اضافية، سيكون واحداً من السيناريوهات المطروحة، باعتبارها مغامرة عسكرية سريعة. فالسلطات الروسية دأبت ومنذ أعوام ثلاثة على الاعتماد على القوات المحلية في مواجهة الجماعات المسلحة في شمال القوقاز، ولكنها الآن ستشارك فعلياً في العمليات العسكرية هناك، وهو ما يعني بالتالي إعادة إشعال شمال القوقاز مرة أخرى.
المصدر: الغد