تشير إحدى الدراسات الاجتماعية بأن مباريات كرة القدم كانت لمشجعي فريق “أتليكو بلباو” الأسباني، والذي يعبر عن قومية الباسك المطالبة بالاستقلال عن أسبانيا، أفضل الوسائل “للتعبير عن ذاتهم القومية من دون أن يخافوا السجن”. وقد كنت استخدمت هذه الملاحظة حين كتبت عن التأثير الاجتماعي-السياسي لكرة القدم، وتحليل مبارياتها، مرة في العام 2000 على صفحات الزميلة الرأي، وكان ذلك على إثر أحداث شغب بين جمهوري الفيصلي والوحدات بالأردن. والمرة الثانية كانت في أغسطس من العام 2004 في الأعداد الأولى من صحيفة الغد. وفيما قدمت في كلتا المقالتين رؤية تاريخية لتطور السيوسيولوجيا السياسية لكرة القدم، إن جاز التعبير، فقد خلصت كلتا المقالتين إلى أن اللعبة الشعبية الأولى في العالم، لها جانب وظيفي حيث إنها أضحت معبراً رمزياً عن النزعات الأولية كالقومية، والدين، والاثنية …إلخ، وهو التعبير الذي يتخذ في أحيان كثيرة طابعاً عنفياً تشهده مباريات كرة القدم.
فعلماء الاجتماع، وإن طرحوا تفسيرات عدة لمسألة ترميز كرة القدم، فإن اختراق كرة القدم لـ “التابو” الاجتماعي-السياسي الذي لا يجرؤ المجتمع عن الإعلان عنه، يعد تفسيراً معتبراً لما نشاهده اليوم على جنبات المستطيل الأخضر. وهو بهذا المعنى نزوع إلى تجاوز تقييدات السلطات بأنواعها كافة، من دون أن يظهر الفرد بمظهر المتطرف السياسي أو القومي بل ببساطة هو “مشاغب في ملعب”، أو “متحمس لفريق رياضي”، أو كما عبرت الكاتبة “نهلة الشهال” فإن كرة القدم، وبينما يجري خلفها اللاعبون… فإن على ضفاف الملعب عالم آخر “يفصح عما تأبى وقائع الحياة الافصاح عنه”، وهي “خير ما يعكس “القيم الاصلية”، “وبمثابة طقوس حرب أصلية”، كما أشار مرة رئيس تحرير “لوموند ديبلوماتيك” السابق ايناسيو رامونيه. وهو أيضاً ما تعبر عنه مفردات الإعلام الرياضي مثل: “المواجهة المصيرية”، “معركة”، “هزيمة قاسية”، “الفريق الفلاني يدك مرمى الفريق العلاني بكذا هدف”…الخ.
تداعيات مباراة الجزائر ومصر للتأهل إلى كأس العالم، طفت إلى سطح الأخبار العربية، سواء ارتباطها بالعنف من الطرفين، أو بإفساد العلاقات الدبلوماسية، والاقتصادية بين الدولتين، أو حتى بالتأثير بالفن والثقافة، إنها معركة قومية-شوفينية بامتياز للطرفين، وفقاً للمعنى الذي ذكرناه بالسابق. وبذلك فإن المباراة وتداعياتها أشرتا، إلى فشل الدولة القومية العربية. فلو كان خطاب الدولة سواء في الجزائر أو مصر، وهما بالمناسبة ليسا استثناء للدول العربية الأخرى، يلبي حاجة الشعوب السياسية، أو على الأقل يرتقي بها الى مستوى القضايا السياسية الحقيقية، بمعنى تلك التي ترتبط بالهوية السياسية للدولة والمجتمع، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولا أتحدث هنا عن الخطاب التعبوي الذي يفاضل بين القضايا المصيرية وغير المصيرية، فلم يكن الجمهوران قد صعدا تداعيات المباراة إلى أزمة قومية، لا بل وتجاوزت الأزمة البعد الاقليمي لتشكل مصدراً لإعادة التوتر الاجتماعي-السياسي في فرنسا بفعل أحداث الشغب التي تسببت بها الجماهير الجزائرية المحتفلة، وبالتالي تزايد النزعات العنصرية بالمقابل كرد فعل.
بكلمات أخرى، فإن حالة التصعيد التي تسببت بها المباراة تظهر أن الجماهير كانت تبحث عن “عدو”، لتعبر عن “ذاتها”، وبالتالي تعبر عن هويتها. وباعتبار أن الدولة هي التعبير الحديث والمدني عن الهوية، وهو غير معبر عنه في خطاب الدول العربية وأنظمتها، وبالتالي تلجأ الشعوب إلى التعبير عن هويتها السياسية في المسابقات الرياضية، والمنافسات الترفيهية، والأمثلة كثيرة.
ولكن الخطير عند الحديث عن الأنظمة والدول العربية، كما أظهرتها حالة الجزائر ومصر، أن التعبير عن الهوية اتخذ بعداً شوفينياً، متعصباً، ومقصياً للآخر، بشكل يؤكد أن الشعوب العربية لم يتح لها اختبار التطور التاريخي للدولة لتصير بالنهاية الحاضن للمجتمع، وبشكل يدلل، أيضاً في الوقت ذاته، على أن هناك حالة من القبول من الشعوب العربية لأنظمة تعبر عن تلك النزعات الاقصائية إذا ما صار لمن يعبر عنها الوصول إلى السلطة.
المصدر: الغد